الانتحال في الكاريكاتير، بين الإفراط والتفريط

قيم هذا الموضوع: 
لا يوجد تقييمات

لم تكد الضجة تخبو حول موضوع التشابه في لوحة الفنان الايراني محمود نزاري، الفائزة بالجائزة الاولى في مسابقة دي دي تي – كوبا DDT Biennial، والتي أدت إلى إلغائها، حتى أثيرت الضجة من جديد حول لوحة الفنان الايراني محمد علي خالجي، الفائزة بالجائزة الاولى في المسابقة الثامنة الدولية للبحر المتوسط، على اعتبار تشابهها مع عدد كبير من اللوحات. كان من نتائج هذين الحدثين إيرانيا، توجيه إنذارا للفنان خالجي، بحسب ما أعلن في بيت الكرتون الايراني، وإعلان تبريز كرتون ممثلة بمديرها رحيم اصغري عن إطلاق دعوة لعدد من الخبراء في فن الكاريكاتير لمناقشة مواضيع الانتحال.

ليس بمقدور أي متابع أو مهتم أن ينكر الدور الايراني في فن الكاريكاتير، ففضلا عن تمتع الكثير من الفنانين الايرانيين بموهبة فنية فريدة، أثبتت حضورا واسعا في المهرجانات الدولية، أضحت المسابقات التي تنظمها وتطلقها المراكز الكاريكاتيرية الايرانية، مقصدا لأهم الفنانين الاجانب، ومحطة للكشف عن ابداعاتهم. بهذا فإن حالات التشابه والانتحال، مع ظاهرها الأولي السلبي، تشي باستبطان حراكا رياديا قل أن نجده في بلدان أخرى. والواقع أن قضية اللوحات المنتحلة أو المتشابهة  ليست قصرا على بعض الفنانين الإيرانيين، بل هي حالة عامة منتشرة في كافة المسابقات الدولية، يقع فيها عدد لا يحصى من الفنانين، ولذلك أسبابه، منها:

1-     كثافة المسابقات الدولية التي يعلن عنها سنويا، بجوائز يصل بعضها الى ما فوق الـ 10 آلاف دولار.

2-     توجه الكثير من التشكيليين اتجاه الكاريكاتير دون التنبه إلى بعض الخصوصيات التي يتميز بها هذا الفن.

3-      ضعف التركيز الاعلامي على هذه الآفة التي باتت الشغل الشاغل في دوائر الكاريكاتير الدولية.

4-      انتشار الانترنت بما تحمله من آفاق معرفية فنية جديدة، يستطيع من خلالها الفنان الاطلاع على تجارب أخرى مختلفة، ويستخدمها بالتالي حينا بطريقة مشروعة، وحينا بطريقة غير مشروعة.

5-     انعدام القدرة على حصر الابداع الكاريكاتيري بعمومه سعيا لحصر تلك الظاهرة والكشف عن مفرداتها..

وغير ذلك. وهنا فما يزيد من وطأة الانتحال، ويسترعي الاهتمام فيه كظاهرة، ليس دافعه الوحيد سعي جهات القرار الكاريكاتيرية الحفاظ على هالة الخبرة التي قد تمس لدى لجان التحكيم في المسابقات الدولية، عند ظهور انتحال في بعض الأعمال المختارة أو  المجازة، بل العمل على حفظ الملكية الفكرية، وحق الأسبقية لصاحب الفكرة الاولى، وتنزيه هذا الفن القائم أساسا على مبدأ الفكاهة من ربقة التكرار الممل، والحث على الابداع فيه أكثر فأكثر.

ما هو الانتحال؟

الانتحال لغة، بحسب ما يورد معجم الغني:" اِنْتِحالُ الكاتِبِ لأَفْكارِ غَيْرِهِ: أَخْذُها والادِّعاءُ بِأَنَّهُ صاحِبُها"، وهو لا يشذ عن هذا اصطلاحا في فن الكاريكاتير، لكن قد يكون لفن الكاريكاتير خصوصية تميزه عن سائر صنوف الابداع الأخرى، ولعل تلك الخصوصية تتمثل أساسا ببنية اللوحة الكاريكاتيرية. والواقع أن مقاربة بنية اللوحة ككل أمر يحتاج لإفراد أبحاث مستقلة، لكن هذا لا يمنع من الالماح هنا الى بعض النقاط التي تشكل محور خلاف بين الفنانين المتصدين لشأن الانتحال، فعلى سبيل المثال، يذهب الفنان الروماني جوليان بنا باي إلى تحديد ظاهرة الانتحال، في اللوحات التي تتشابه برسالتها المؤداة، كما هو الحال في اللوحتين أدناه على سبيل المثال:

ذلك أن اللوحتين تتشابهان من حيث الرسالة المؤداة منهما، ولهذا يضع الفنان بنا باي سلما للجان التحكيم في المسابقات الدولية، ويتمثل بـتصنيف اللوحات المشاركة على أقسام أربعة:

1-     النسخ.

2-     التشابه بنفس الرسالة المؤداة.

3-     تشابه باللوحة مع اختلاف الرسالة المؤداة.

4-     الأصالة بالفكرة وبالرسالة المؤداة ( لا تشابه ).

ويعتبر ان توافر الشرطين الثالث والرابع يمنح صاحبهما الحق بنيل الجوائز الدولية، إن استوفت شروط الفوز.

أما الفنان النروجي من أصل تركي فيروز كوتال، فيقارب مفهوم "الفكرة" بعمومها، معتبرا انها "المفتاح" في اللوحة الكاريكاتيرية، ويجد أن الفكرة تولد من خلال ما يراه الفنان من رسومات يومية باعتبار عمله، وهذه الرسومات تتجمع في الخلفية الفكرية للفنان، وتساهم مساهمة فاعلة في اختياره للموضوع وتنفيذه.. ويستطرد الفنان كوتال بالقول:"تخلق الفكرة من أبحاثنا، مما نقرأ، من اهتماماتنا في مجتمعاتنا.. اللوحة تولد من أذهاننا، وليس من الرسومات التي نشاهدها حصرا".. ويعالج الفنان كوتال آلية خلق الفكرة بالقول:".. الفكرة لا تتسق بذاتها، بل هناك مهارة أخرى، وتتمثل بوضع الفكرة أمام الانظار، بمعنى خلقها".

ولعل الغالبية التي قاربت مسألة الانتحال في فن الكاريكاتير، لم تتجاوز عناوين "الفكرة"، "الرسالة المؤداة"، "الموضوع" كمرجعية في تحديد العمل الفني ما إذا كان منتحلا أو لا.. من هنا، وفي محاولة لمقاربة ما ذكره الخبيرين أعلاه بهذا الخصوص، أورد مثالا تطبيقيا لمناقشة بعض ما ذهبا إليه. فقد نشر موقع دونكيشوت التركي – الالماني في مجموعته الضخمة من اللوحات المتشابهة، رسما صنفه "متشابها":

والرسمين أعلاه يستنطقان رائعة "دونكيشوت" لسيرفانتس، ويستلهمان صراع بطل هذه الرواية مع طواحين الهواء.. والواقع مع التشابه الظاهر بين فكرتي الرسمين، وانطلاقا من تقديم الفنان كوتال، أطرح الاستفهام التالي: ما هو الأمر الأول المتبادر إلى ذهن الفنان من خلال خلفية ما علق بذاكرته عن صراع دونكيشوت مع طواحين الهواء، ومن خلال ما يشاهده المرء يوميا في محيطه ومجتمعه، ومن خلال التقدم التقني، وما يعكسه من شرط الجمع المتناغم للمتناقضات في بناء لوحة الكاريكاتير، ويوفر بالتالي هدف الفكاهة المفروض بطبيعة هذا الفن أن أخذنا مفردة طاحونة الهواء بذاتها؟؟ يبدو لأي مهتم أن أول ما يتبادر إلى الذهن عندها هو المروحة الكهربائية، فآلية عملهما تتشابه تقنيا، ورمزيتهما مع شخصية دونكيشوت تؤديان نسبيا نفس الدور، حتى بدون أن يكون أحد الفنانين قد أطلع على لوحة الآخر.. من هنا، فإن كان فنان ما، يقرأ رائعة سيرفانتس في الصيف، وأمامه المروحة تنعم عليه بنسيمات هادئة، فمن الطبيعي ان يتحرك حكما باتجاه تنفيذ تلك الفكرة دون أي تردد، وإن فعل، فسيجد نفسه متهما بالانتحال، دون أي تقصد لذلك، على الرغم من عدم مخالفته للمقاربة التي تبناها الفنان كوتال. بهذا، فإن تعميم ما قاربه الفنان كوتال، من ناحية خلق الفكرة، يرد عليه إشكال أول، عند استقاء الفنانين لوحتيهما من مصدر واحد، وهو رائعة سيرفانتس في هذه المفردة على سبيل المثال، ويتأكد هذا الاشكال مع العولمة، والثورة التقنية والانترنت، بآثارهما التي فتحت المعارف والثقافات بعضها على بعض، وأحالت العالم إلى قرية صغيرة.

أما الاشكال الثاني على ما ذهب إليه الفنان كوتال، فيدور بإزاء رأيه حول تنفيذ الفكرة، ونكرر ما ذهب إليه من قول:"الفكرة لا تتسق بذاتها، بل هناك مهارة أخرى، وتتمثل بوضع الفكرة أمام الانظار، بمعنى خلقها". وهذا القول بحد ذاته كما السيف يقطع من جهتين، فإذ يسجل للفنان كوتال ذهابه إلى كون تنسيق الفكرة حين التنفيذ، أمر يشي بالاسلوب والطابع الشخصيين للفنان، وأي انتحال قد يطرأ، سيتعارض بالطبع مع طبيعة التنفيذ، وبالتالي يلزم بالكشف عن اللوحة الاصلية وتلك المنسوخة.. يرد على هذا القول انه يحمل نوع من الشرعنة لانتحال الفكرة مع تغيير التنفيذ، وهو أمر من السهل وقوعه، بل لعله اليوم الفيصل ما بين اللوحة المنتحلة وتلك المنسوخة، والحال حينها يتمثل بتناول الفكرة الاولى وإعادة قولبتها بطريقة تتلائم مع أسلوب الفنان المنتحل. والنتيجة تكون: الفكرة واحدة، والتنفيذ مختلف أو محوّر، ومستتر حينها بستار "الاستلهام".

أما ما ذهب إليه الفنان جوليان بنا باي، فمع أهميته وأسبقيته في هذا المجال، إذ يشهد للفنان بنا باي كونه من أهم المتابعين دوليا لظاهرة الانتحال، فهو بدوره أيضا يركز على اللوحة كفكرة أو كرسالة مؤداة، غاضا الطرف عن الأمور الأخرى المؤسسة للوحة الكاريكاتير، والتي يؤخذ بها بمحور التفاضل في الحكم على اللوحات الفائزة في المسابقات الدولية، والتي منها أسلوب التنفيذ، والطابع التقني الفني، وهذه النقطة بحد ذاتها، يمكن أن ينظر إليها في بعض حالات التشابه ولا أقول الانتحال، كتصعيد وتطوير للفكرة الاولى بحيز من الاستلهام المشروع، كما قد يؤخذ على الفنان بنا باي، عدم تحديد المصطلحات بشكل وافي، وحقيقة الامر ان هذا الموضوع ليس حصرا بالفنان بنا باي، بل لعل غالبية المتابعين لشؤون الانتحال، يعانون من الخلط في استخدام بعض المفردات من مثل :"انتحال"، "تشابه" وغيرهما، فيتم استخدام كلمة "تشابه" similarity بمحل الانتحال plagiarism والعكس بالعكس، في حين من المعلوم ان دلالة كل مصطلح يختلف عن الآخر عند استخدامه بإطار البحث الممنهج. والواقع أن عدم تحديد المصطلحات من جهة، والعمومية المطلقة التي تحيط بمقاربة موضوع الانتحال، أدى لحالة قريبة من الفوضى، بحيث بات الاستحسان والذوق الشخصيين هما الفيصل والحاكم على موضوع الانتحال بمفرداته من لوحات، فبتنا نرى أحيانا مقاربة تعلن عن انتحال في ما يقرب من ستة لوحات لاشتراكهم في موضوع واحد في بعض الأحيان.

ومن الدلائل على عدم الدقة في الاكتفاء بموضوع الفكرة كعنوان للانتحال، وجود عدد من اللوحات المتشابهة لدى كبار الفنانين العالميين من مثل سلفادور دالي، والتي بواقعها إن أخضعناها للشروط التي يفرضها الخبراء بهذا المجال، لصح حينها أن نعتبر الفنان دالي منتحلا.. والأمثلة هنا:

بهذا، وانطلاقا من عدم كفاية الاعتماد على الفكرة كنقطة ارتكاز في الكشف على الانتحال، يطرح السؤال المشروع، أمام تلك الظاهرة.. ما هو الحل؟ لعل أهم ما يتوجب فيه البحث هو تحديد أطر نظرية لمفاهيم النسخ والانتحال والتشابه والتشابه غير المقصود، يأخذ بعين الاعتبار المؤثرات الفاعلة بالفكرة، ومكونات اللوحة ككل وعدم الاقتصار على مفهوم "الفكرة" كأساس في تحديد الانتحال، والذي يتضمن فيما يتضمن الاجابة عن الاستفهام حول اين تكون اللوحة منسوخة وكيف، ومتى تكون مستلهمة او مطورة للفكرة الاولى تطورا مشروعا، وكيف..

وبالنهاية، انطلاقا من كون الكاريكاتير اليوم يمر بعصره الذهبي، إن من ناحية المواهب الفنية الفائقة التي ما انفكت تتفجر وتظهر، أو من ناحية قابليته لوراثة الفنون التشكيلية، والتي بات المهتم يرى بشاراتها الاولى في الكثير من اللوحات التي تقارب السريالية والدادائية من منظور كاريكاتيري، يتأكد التحدي أمام الباحث في ضرورة التصدي لآفة الانتحال، بأسلوب بعيد عن الافراط أو التفريط، بحيث ينقذ هذا الفن من تلك المشكلة الخطيرة من جهة، ويوفر أقصى حد ممكن من العناية في مقاربتها، وذلك حفاظا على سمعة الفنانين الذين قد يقعون ضحية تسرع من هنا أو هناك

air max 90 essential blue

معرض الصور