الكاريكاتير العراقي يطفيء شمعته السابعة والسبعين

قيم هذا الموضوع: 
Average: 1 (1 vote)

أطفأ رسامو الكاريكاتير في العراق على اختلاف مشاربهم وهمومهم و منافيهم الشمعة السابعة والسبعين في ذكرى ميلاد أول رسم كاريكاتير عراقي كامل الأوصاف والملامح، و ذلك في التاسع والعشرين من أيلول عام 1931 ، في الحقيقة فإننا قبل التوصل لهذا التاريخ كنا قد اختلفنا بادئ الأمر ( كالعادة ) على تحديد جنس الوليد وتاريخ الولادة و الأبوة الشرعية، وسوى ذلك من اختلافات شكلية لا تــُفسد للكاريكاتير قضية.

اول رسم كاريكاتير عراقي بريشة عبد الجبار محمود

المشهد يعود لمنتصف الثمانينات من القرن الماضي حين اجتمعت ثلة من الكاريكاتوريين العراقيين في محاولة ( ثانية ) لتأسيس تجمع كاريكاتيري عراقي ناشط يكون بمثابة الهيئة التنسيقية لفعاليات الأعضاء ومشاركاتهم الداخلية والخارجية، ومواجهة الضغوط المهنية التي يعاني منها رسام الكاريكاتير من مختلف الجهات ابتداءً بالمسؤول مهما صغـُر أو كبُر ومرورا برئيس التحرير ومدير التحرير والمحاسب وانتهاءً  ببواب الصحيفة، اجتمعت تلك الثلة لترتيب الأوراق الكاريكاتيرية المتناثرة : مؤيد نعمة، عبد الرحيم ياسر، ضياء الحجار، خضير الحميري، وليد نايف، عبد الكريم سعدون، عباس فاضل، شهاب الحميري،عامر رشاد وآخرين، وكانت المحاولة ( الأولى ) لتأسيس مثل هذا التجمع تعود لعام 1976 وقد تمخضت حينها عن معرض جماعي كبير أثار الكثير من الآمال والتطلعات المشاكسة، احتضنته قاعة المتحف الوطني للفن الحديث في بغداد لمجموعة متميزة من الرسامين كان على رأسهم الفنان نزار سليم و بمشاركة الفنانين بسام فرج ومؤيد نعمة و عبد الرحيم ياسر و ضياء الحجار و رائد نوري و موسى الخميسي ، إلا ان المحاولة أحبطت في بواكيرها الأولى و لم تذهب لأبعد من إقامة ذلك المعرض، والأصداء المهللة التي تناثرت حوله، والكتابات النقدية التي حللت مضامينه، إذ سرعان ما عصفت ظروف البلد السياسية بالطموحات الكبيرة التي تم الإعلان عنها عشية المعرض، بالإضافة لظروف أخرى مثل هجرة بعض الفنانين المؤسسين و رحيل الفنان نزار سليم، و لكن ظلت تلك التجربة ذكرى تحريض معلن لتجديد المحاولة.

شعار لجنة الكاريكاتير العراقية

صمم الفنان عبد الرحيم ياسر شعار تجمعنا الجديد مستوحيا فكرته من مصباح علاء الدين، وخيال ( شُبيك لـُبيك ) الذي يحقق الأعاجيب بمجرد ( احتكاك ) القلم على الورق، واخترنا او أختير لتجمعنا تسمية ( لجنة الكاريكاتير العراقية ) لم ترق لنا التسمية بادئ الأمر واقترحنا مفردات أخرى بديلة عن ( لجنة ) مثل ( تجمع أو رابطة أو ملتقى أو جماعة أو منتدى ) تهربا من الظل الثقيل والرتابة المقيتة التي تحملها الـكثير من ( اللجان ) في ذاكرة الناس، ولأنها مفردة مهادنة لا تنسجم مع مشاكسات الكاريكاتير، ولا اعرف كيف صمد الاسم بوجه اعتراضاتنا، ربما تم امتصاص الاعتراضات من خلال أحالة الموضوع إلى ( لجنة ) مختصة لدراسته وتمييعه .. أو ما شابه.

ولاستكمال إكسسوارات التجمع أو اللجنة التي شرعنا في تأسيسها بدأنا التنقيب في مطبات التاريخ والجغرافيا، بحثنا عما دونه رواد الكاريكاتير العراقي، وتقصينا ما أنجزوه، وما حالت الهراوات بينهم وبين انجازه .. فوجدنا ذخيرة عامرة بالجرأة و التحايل على الممنوعات، مثلما وجدنا قطيعة او ما يشبه القطيعة بين أجيال الكاريكاتيريين، هذه القطيعة كانت تحصل اما بسبب الهجرات ( المفاجئة ) لبعض الفنانين إلى بلاد الله الواسعة أو بسبب هجرهم لفن الكاريكاتير لصالح مهنة أخرى أكثر إيرادا واقل أذى ومخاطرة، فتحصل الهوة او القطيعة التي لا تتم فيها عمليات ( استلام و تسليم ) الخبرة.

غلاف العدد 135 من جريدة حبزبوز

كان بعضنا يود الغوص عميقا في بطن التاريخ الكاريكاتيري عله يكتشف نـُتفا من خفة الدم و السخرية اللاذعة أو التهكم المر لدى أجدادنا العظام في المنقوشات السومرية أو المنحوتات الآشورية و البابلية، حيث لا يعقل بان الجدية و جحيم الصرامة كانت هي الشغل الشاغل لأجدادنا وهم يبنون ويهدمون الدولة تلوى الأخرى، من دون رأي مشاغب، أو رؤية متهكمة، أو ضحكة مجلجلة تطيح بجلالة التجهم السائد، الفكرة طريفة وتستحق الغوص و الدراسة حقا، ومن يحاول سوف يعود بالصيد الثمين، ولكن الحديث كان في إطار الكاريكاتير المعاصر بأدواته المعاصرة تحديدا، حبر وورق ومطابع ( قبل أن يكون للتقنيات الحديثة رأي آخر )  وبذلك حصرنا الجهد في الحاضنة الحقيقية للكاريكاتير وهي الصحافة، فشمرنا سواعدنا لتقليب أرشيف الصحف العراقية بحثا عن موطئ قلم او فرشاة تدلنا على الانطلاقة الاولى لرسم الكاريكاتير في العراق، حين أخرَجنا من غبار الصحف اقتراح للفنان ضياء الحجار باعتبار التاسع والعشرين من ايلول عام 1931 تاريخا موثوقا لتلك الانطلاقة، في إشارة لرسم كاريكاتير تصدر غلاف العدد الأول من جريدة حبزبوز، وهو ما  رست عنده رسالته الموسومة ( رسم الكاريكاتير المعاصر في العراق ) لنيل شهادة الماجستير في الفنون من كلية الفنون الجميلة، ومن يومها أصدرنا مرسوما نافذا يقضي باتخاذ ذلك اليوم عيدا للكاريكاتير على غرار عيد الفلاح وعيد العشاق وعيد الكحيانين وعيد الشجرة، مناسبة بسيطة فرشنا أوراقنا  في ظلالها ..  واتخذنا منها موعدا لمعارضنا التي انتظمت و حركت الأجواء لعدة سنوات ثم انفرطت .. مثلما انفرطنــــا.

غلاف جريدة كناس الشوارع التي صدرت عام 1925

وقد طغى اقتراح الحجار في حينه على فكرة أخرى كانت موضع أخذ و رد، ترى في تاريخ صدور جريدة ( كناس الشوارع ) لصاحبها ميخائيل تيسي  (عام 1925) كأول ظهور لرسم الكاريكاتير في العراق على اعتبار ان الجريدة كانت تضع رسما كاريكاتيريا ثابتا في اعلى صفحتها الاولى، يعبر بطرافة عن اسم الجريدة ، يظهر فيه شخص حافي القدمين، رث الثياب، يجول في شوارع المدينة رافعا مكنسته متأهبا لضرب كل من يأتي امرأ مخالفا للذوق والنظام والقانون على رأي صاحب الجريدة، وقد ذيل الرسم بتعليق محور عن بيت شعر يقول : ( من لم يمت بالسيف مات بضرب المكانس .. تنوعت الاسباب والموت واحد ) والرسم موسوم في اسفله بتوقيع سريع وغامض لاسم الرسام ( ربما كان اسمه الاول محمد ) ..

تم التخلي عن هذه الفكرة لان صفحات كناس الشوارع كانت و باستثناء ( موتيف الغلاف ) خالية تماما من رسوم الكاريكاتير، وان صحفا أخرى سبقت أو تلت كناس الشوارع ، اعتمدت ( الطـُعم ) الكاريكاتيري ذاته بجوار اسم المطبوع من دون ان تكون للكاريكاتير حصة تذكر في صفحاتها الداخلية، و ينطبق ذلك أيضا على رأي الدكتور حمدان السالم الباحث في تاريخ الصحافة العراقية والذي يرجح تاريخا آخر لظهور أول رسم كاريكاتير عراقي وهو 19 تشرين الأول عام 1923 حين ظهر على الصفحة الأولى من جريدة ( جحا الرومي ) لصاحبها رشيد الصوفي رسما يمثل أصحاب الصحف وهم يسبحون في ( بحر السياسة ) بينما جلس جحا الرومي على التل رافضا الخوض معهم في السياسة و مستنقعاتها، ومن الواضح بان هذا الرسم يعبر عن الاتجاه الذي تدعيه

الجريدة كعلامة ثابتة و هو شبيه بدلالات رسم جريدة كناس الشوارع، وفي المقارنة نجحت ( حبزبوز ) في اجتذاب أكثر من رسام كاريكاتير للعمل فيها طوال سنوات صدورها التي امتدت حتى عام 1938، مثل عبد الجبار محمود و مصطفى ابو طبرة و ناصر عوني و سعاد سليم و فائق حسن و عطا صبري فضلا عن نوري ثابت صاحب الجريدة والذي كان ينفذ بعض الرسوم بخطوط بسيطة وتعليقات مسهبة ..

ويعزو الصحفي العراقي الرائد صادق الازدي ( صاحب مجلة قرندل ) تأخر ظهور الكاريكاتير في العراق حتى ذلك التاريخ لتأخر افتتاح أول معمل للزنكغراف في العراق الى عام 1930 ، حيث كانت ( كلائش ) الرسوم والصور تستورد من خارج العراق بأسعار مكلفة مما يثقل الميزانيات البسيطة للصحف ، فتعمد على تكرار كليشة واحدة على صدر صفحتها الأولى.

غلاف لمجلة قرندل

الرسم الذي اعتمدناه كشمعة نجتمع حولها للاحتفال بميلاد فن الكاريكاتير العراقي، رسمه الفنان الرائد عبد الجبار محمود غلافا لعدد حبزبوز الأول، و هذا الفنان كان يرسم الكاريكاتير من باب الهواية والتسلية و سرعان ما غادر الصحافة إلى الجيش، حيث كان قد درس في المدرسة الحربية في الأستانة شأنه في ذلك شأن رئيس تحرير الجريدة نوري ثابت، والرسم الذي نحن بصدده يمثل شخصية حبزبوز احد أشقياء ( فتوات ) بغداد ذات الصيت والمهابة الشعبية، والتي يتقمصها هنا صاحب الجريدة وهو يمتطي مدفع السلطان مراد الرابع ( طوب ابو خزامة ) الشهير هو الآخر حاملا بيده ( قلمه السيال ) وقد كتب اعلى واسفل الرسم تعليقا مطولا يسخر فيه من ( تردي الحالة الأمنية ) و الكاريكاتير يتحدث بشكل مباشرعن حادثة اطلاق نار كان تعرض لها حبزبوز في ( اوتيل ما شاء الله ) حين اطلق عليه شخص ما ( لم يكن اللثام قد اكتشف حينها  ) 6 رصاصات لم يحل بينها وبين رأس الصحفي سوى سوء التهديف ( وهو ما تم تلافيه تماما في أيامنا ) ..

أعقبت حبزبوز العديد من الصحف التي استثمرت جسارة الكاريكاتير وجاذبيته في إغراء القراء، كان من أشهرها ( قرندل ) لصاحبها صادق الازدي حيث شهدت هذه الصحيفة بروز نجم رسام الكاريكاتير غازي عبد الله و هو أشهر رسامي الكاريكاتير العراقيين لحقبة طويلة، و أفضل من صّور الشخصية العراقية و انتقد العادات و التقاليد و الأمراض الاجتماعية وفقا لشهادة الفنان فيصل لعيبي، و قد استمر يرسم الكاريكاتير و ان بصورة متقطعة حتى عام 1993. وقد عاصره في نفس المرحلة الرسام حميد المحل، و توالى صدور الصحف والمجلات الساخرة، وتذبذب سقفها ألانتقادي صعودا وهبوطا تبعا للسقف السياسي الحاكم، وكان آخر عهد القارئ العراقي بالصحافة الساخرة يتمثل بمجلتي ( الفكاهة ) لصاحبها حميد المحل و ( المتفرج ) لصاحبها مجيب الحسون اللتين أطيح بهما معا في مطلع السبعينات اثر صدور قرار بمنع الصحافة الساخرة ..

فنان الكاريكاتير غازي عبدالله بريشة فيصل لعيبي

حاول الصحفي و الكاتب العراقي ليث الحمداني في عام 1989 إصدار ملحق كاريكاتيري ساخر لجريدة الاتحاد التي كانت تصدر عن اتحاد الصناعات العراقي باسم  الفلقة ( وهي نوع من التعذيب أو .. التأديب بالضرب على باطن القدمين !!) اشترك فيه  وتحمس له حينها العديد من رسامي الكاريكاتير والكتاب الساخرين، غير ان الفلقة سرعان ما تعرضت للفلقة بعد العدد الأول وتوقفت عن الصدور نهائيا.

أما الآن .. فتصدر في العراق ثلاث مطبوعات كاريكاتيرية ساخرة تحاول استعادة أمجاد (حبزبوز) و( قرندل) و( الوادي)  و ( أبو حمد ) وهذه المطبوعات هي : ( كاب ) الصحيفة نصف الشهرية التي تحولت إلى مجلة شهرية مؤخرا وهي تصدر باللغتين الكردية والعربية في اربيل  ومعناها ( مزحة ) ويشرف عليها فنان الكاريكاتير محمد قادر، ومجلة ( الفلقة ) أيضا التي تصدر في بغداد ويرسمها ويحرر اغلب صفحاتها رئيس تحريرها حمودي عذاب، وجريدة ( الكاروك ) التي يرأس تحريرها الكاتب الساخر والاكاديمي المعروف د. كاظم المقدادي ، ويرسم على صفحاتها عدد من الرسامين المبدعين .

Mercurial X Proximo

معرض الصور