خطان متوازيان وثلاث نقط ... فقط !

قيم هذا الموضوع: 
لا يوجد تقييمات

في ذكرى فنان الكاريكاتير العراقي بربن

لم أكن أتخيل شكل الفنان محمد علي بربن قبل أن التقيه مطلع عام 1988، رسمت له أكثر من صورة مستندا على عفوية أفكاره الكاريكاتيرية ، وكلماته التي وصلتني برسالة قصيرة ، والمعلومات البسيطة التي سمعتها عنه ، واعترف إن أيا منها لم تفلح في مقاربتها لصورة الرجل الذي وقف أمامي ، قامة فارعة ، وصوت أجش، وحضور محبب، وهيبة أستاذ ...

قدم نفسه بلا مقدمات : بربن ..

قلت له مرحبا : ياله من ( اسم ) مهيأ للشهرة ..

فرد بتلقائية لا تفارقه : وللأكل أيضا ...

ضحكنا ... وفي غضون خمس دقائق كنا نعرف بعضنا من خمس سنوات ، وهكذا هو على طول الخط كما عرفته لاحقا ، لا يصمد أمامه حاجز لبناء الصداقات مع الناس .. وحين كنت اقلب الصور، صورنا التي التقطناها في مناسبات مختلفة ، لم اعثر له على صورة جماعية إلا وكل من يشاركونه الصورة مبتسمين ، فهو لا يجيد التجهم ، ولا يطيق العبوس والعزلة ، يخلق النكتة والألفة ولا يفتعلهما ، وحين يرسم يترك لسجيته أن تتحكم بالخطوط بلا ضوابط مسبقة، فيلد رسمه بلا فذلكة، متحررا ومختلفا عما عودنا عليه عين القارئ ... لسنين !

لم يكن الكاريكاتير يشكل بالنسبة له أكثر من متعة الهواية بأرقى صورها، لا يتكلف الرسم ولا يلجأ إليه مرغما أو مدفوعا لتلبية موعد قسري مع مجلة أو صحيفة، لا يحب مثل هذه الالتزامات التي تؤدي بنظره إلى ولادات

الفنانين محمد بربن و ضياء الحجار و مؤيد نعمة .. بعدسة خضير الحميري

قيصرية .. وحين تأتي الفكرة يفتح لها ذراعيه ولا يعتذر متحججا بضيق الوقت أو الانشغال ، يرسمها حتى ولو أتته في منتصف الليل ، وحين تغيب لا يسأل عنها .. فهو ليس مضطرا لاختلاق المواعيد الملتبسة معها ، أوراقه مشرعة دائما للأفكار الساحرة ، حتى حين كان على طلاق مع النشر ،لأسباب كثيرة كان يرسم لنفسه ولأصدقائه ... و ( للتاريخ ) .... يقولها ساخرا..

يجيد الفن في أحاديثه كما في رسومه ، فدعاباته ومداخلاته تأسر أسماع مجالسيه ، عن مران طويل اكتسبه من مهنة التدريس ، وغالبا ما كان يقود جلساتنا الكاريكاتيرية نحو دهاليز علم ( البايلوجي ) وكروموسومات الوراثة ، وكنا ننصت كتلاميذ ريثما يأتينا بـ ( ربّاط السالفة ) الذي قد يكون في سلوك البكتيريا أو انقسام الخلايا ، أو تزاوج البراميسيوم ، كان يعشق اختصاصه الأكاديمي ويجل مهنة التدريس ، ويباهي بأفواج التلاميذ الذين تخرجوا على يديه .. منذ أن حصل على الليسانس في علوم الحياة من جامعة بغداد عام 1962 .

عمله في الصحافة كرسام كاريكاتير كان عبارة عن ومضات متوهجة ومتباعدة ، وكأنه فنار في مرفأ بعيد ، يدخل على استحياء وينسحب من دون جلبة ، قد لا يعرفه بعض القراء ، ولا يذكرون اسمه ، ولم تكن الشهرة تعنيه كثيرا على أية حال ، إلا انه وشم ذاكرة الكاريكاتير العراقي بتوقيعه الذي يشبه رسمه ومزاجه الفني ، خطان متوازيان وثلاث نقاط ، وترك في شوارع الصحافة وشوارع الحلة ذكرى عطرة .. بنكهة البربن ..

رحل الفنان (بربن) بصمت قبل عام ونصف العام بعد صراع مع المرض ، ولم يسمع بموته غير أهل مدينته التي أحبها وأحبته ، إذ كانت ( مسامعنا ) مشغولة حينها بدوي الهاونات و المفخخات ولعلعة الرصاص و فرق الموت وأعداد الجثث المجهولة .... ولم يعرف الكثير من أصدقائه ومحبيه بالخبر المؤلم إلا عبر مرثية شعرية نشرت في الصحف تقول مقاطع منها :

محمد علي بربن .. هذا هو اسمك

إن الحواس كلها تتماهى في حضرتك وترقص في مزنة من الضحك المتواصل ..

وأنت تسخر من هذا العالم الذي لم نعش هنيهة واحدة فيه

لقد سُحب بساطه من تحتنا ، وتــُركنا قطيعا خارج المجرة

على شفا حفرة من النار ..

كنت ترسم من قلبك وتنقط اللوحة بكريات دمك الحمراء

إذ لا ابيض في حياتنا سوى أسمائنا

المكتوبة على اللافتات السود المعلقة في الشوارع ..

في الصباح تلملم الزنابق نداها لتمسح عينيك

وتطبع قبلة على جبينك

تتنفس عطرها وتنهض واقفا مثل مايسترو أمام حشد البلابل

لتبدأ الغناء ..

بهذه الكلمات كتب الشاعر العراقي ( موفق محمد ) قصيدته في رثاء صديق عمره ، وابن بلدته ، و أحد رفاقالسمر والسخرية من أحوال الدنيا ، رسام الكاريكاتير بربن ، الذي ينتسب إلى عائلة ( حلاوية ) معروفة بصلتها الوثيقة مع الفن والأدب، وقد اشتهر الكثير من أفرادها بحس الدعابة ونسج خيوط الحدث اليومي على شكل نكتة تطرب لدغدغاتها الأسماع ..والاسم الذي تتكنى وتشتهر به العائلة مأخوذ من ( البربن ) احد أنواع التمور المحببة لدى العراقيين ، و الحلة كما هو معروف من أشهر المدن العراقية في زراعة النخيل وإنتاج التمور بعد البصرة ..

في عام 1974 وعلى صفحات مجلة ( ألف باء ) قدم فنان الكاريكاتير العراقي بسام فرج الرسام الشاب بربن بمقدمة بسيطة اذكر من بين ما قال فيها بأنه يفرد صفحتي الكاريكاتير لهذا الأسبوع لموهبة كاريكاتيرية واعدة وناضجة بأفكارها وخطوطها وجرأتها الفنية ، وقد ابرز مصمم الصفحة بالأبيض على الأسود التوقيع المميز والمُختزل للفنان الشاب وكأنه توقيع رسام مارس مهنته لسنين طويلة ..

كانت الرسوم المنشورة مدهشة ببساطتها وتلقائيتها ، ومغايرة تماما للنمط الذي كان يرسم به ( بسام فرج ) ابرز الرسامين العراقيين وأكثرهم شهرة في تلك الحقبة ، إذ كانت خطوط ذلك الفنان الشاب حديثة ومتحررة ، بينما كان بسام يرسم باسلوبه الكلاسيكي المحترف ، إلا إن بربن وعلى عكس المتوقع في مثل هذه الحالات  لم يعاود النشر بعد ذلك التقديم وغاب عن الصحافة طوال 13 عاما رغم الإطراء والثناء الذي لقيته تجربة النشر الأولى ، ليظهر ثانية عام 1987 وعلى صفحات مجلة ألف باء ذاتها بعد أن فاز بالجائزة الأولى لمسابقة الكاريكاتير التي نظمتها المجلة ذلك العام ، ودعته كجزء من الجائزة للرسم على صفحاتها فعاود الرسم المتقطع في الصحف والمجلات البغدادية ( ألف باء، الاتحاد ،دنيا ،الفلقة ) حتى منتصف التسعينيات ليتوقف مجددا..محبطا من حال الصحافة وسقفها المتهالك ..

ولكنه عاود الرسم بحماسة و تفاؤل مع النصف الثاني لعام 2003 في صحيفة ( الفيحاء ) وسواها من الصحف المحلية التي كانت تصدر في محافظة بابل .. وأثار الانتباه بجرأته وتجدده ، وصوته الحر ، ولكنه سرعان ما شعر باللاجدوى وبأنه كمن يعزف لحنه في سوق ( الصفافير ) فلا من يقرأ ولا من يسمع لغير صوت المهاترات ... و أحبط مجددا ... من حال الناس ... وأحوال البلد ..

فتوقف عن النشر إلى الأبد .

 

nike air max 2019 basketball

معرض الصور