ناجي العلي ولد في الشجرة ولم يمت في لندن

قيم هذا الموضوع: 
لا يوجد تقييمات

بين المهد في الشجرة بفلسطين عام 1936 واللحد في لندن عام 1978 رحلة طولها واحد وخمسون عاما، رحلة قصيرة زمنيا، ولكنها زاخرة، إنها رحلة الشهيد الفنان ناجي العلي التي تجاوز زخمها حدود التقويم.

ناجي العلي الذي تعتبر الكتابة عنه في ذكرى استشهاده نوعا من المهام الصعبة، ومصدر الصعوبة تكمن في أنك حين تكتب عن ناجي العلي لا تضيف شيئا، فهو بغنى عنك، وليس بحاجة إلى تعريفك به،  لأنه من بين قلة قليلة جدا ربما تعد على أصابع اليدين ترسخت في الذاكرة الشعبية بعمق يصعب اقتلاعه منه، ولأن ناجي العلي لم يعد اسم علم، فقد تحول إلى مفهوم يشبه مفهوم الوطنية وحين تكتب عنه فكأنما تكتب عن الوطن، وبكلام آخر فإنك حين تتحدث عن ناجي العلي تلبس عباءته.

ماذا ستكتب؟ ولد في الشجرة واستشهد في لندن؟ عمل في صحيفة السفير من تاريخ كذا إلى تاريخ كذا وفي السياسة من تاريخ كذا إلى تاريخ كذا وقبل ذلك درس في معهد فني وتركه بسبب الملاحقة ورسم على جدران المخيم والتقى الشهيد غسان كنفاني الذي دعاه للعمل معه؟ كل ذلك يعرفه الجميع حتى قبل تلك السير التي كتبت عن ناجي العلي.

عن ماذا أيضا؟ عن رشيدة مهران التي نالت الشهرة برسوم ناجي العلي، أم عن صديقه محمود درويش الذي لم يجامله ناجي العلي، أم عن المنظمات الفلسطينية التي كان ناجي العلي مقاتلا فيها جميعا ويترأس المعارضة فيها جميعا، أم عن زعماء المنظمات الفلسطينية، أم عن الزعماء العرب بلا استثناء، أم عن كيسنجر العطشان للنفط، أم عن أم كلثوم أم عن غيرهم؟ الجميع أيضا يعرفون أن ناجي العلي لم يكن لديه ذقون ممشطة.

أم عن حنظلة وفاطمة وباقي أفراد أسرة ناجي العلي الكاريكاتيرية، الجميع أيضا يعرفونهم والبعض يعرفهم أكثر مما يعرف أفراد أسرته.

ناجي العلي كتاب مفتوح، قرأه الجميع حتى أولئك الذين لا يتقنون القراءة.

لا شيء تضيفه إلى معلومات القارئ كونه يعرف مثلنا وربما أكثر منا.

الشيء الوحيد الذي ربما لم ينتبه إليه أحد هو أن جميع رسامي الكاريكاتير بعد ناجي العلي أصبحوا يشعرون أنهم ناجي العلي، وكما كان ناجي العلي مشروع شهيد حي قبل اغتياله فإن الكثيرين من رسامي الكاريكاتير يشعرون بنفسهم هكذا، كما أن فئة من القراء تنظر إليهم هكذا، لقد رفع ناجي العلي شأن الكاريكاتير، ليس لأن الكاريكاتير قبل ناجي العلي لم يكن يتعاطى السياسة، وليس لأنه قبل ناجي العلي كان مجرد وسيلة لاستجداء الضحك، فالكاريكاتير لم يكن كذلك، أما الذي فعله ناجي العلي ولم يفعله قبله أو بعده أحد من رسامي الكاريكاتير في الوطن العربي، فهو أنه حول الكاريكاتير إلى سلاح في المعركة، سلاح فعال، طبعا هناك الكثير من رسامي الكاريكاتير الذين تعرضوا للملاحقة أحيانا أو اصطدموا مع هذا النظام أو ذاك بسبب رسم أو أكثر من بين رسومهم، ولكن أحدا لم يصل إلى حالة ناجي العلي الذي كان كل رسم من رسومه ينذر بخطر داهم، لم تكن رسومه تدعو الخصوم للاستياء أو الاستنكار كما يحدث مع غيره، لقد كانت حادة لدرجة تدفعهم للتخطيط للقتل.

لم يكن ناجي العلي يبحث عن أهدافه خارج الحدود حيث تنعدم سلطة الخصم أو تقتصر على الكلام والحملات الإعلامية، ولم يكن يحتمي بجناح السلطة في البلد الذي يقيم فيه، لقد كان الخطر تحت وسادته ونافذته وخلف باب بيته، لأن ناجي العلي لم يكن يبحث عن الشخص الذي يختاره هدفا له، وإنما كان يرصد الفعل الذي قام به هذا الشخص وبالتالي لم يكن ينظر إلى الخارطة بحثا عن حدود تقيه شر هذا الفاعل،  ولذلك فقد ضاقت حوله الحدود دافعة إياه إلى لندن، ولكن كواتم الصوت ما لبثت أن لحقت به إلى هناك، لحقت به هذه المرة لتنفذ الخطة، التي حددت لها الساعة 5,13 بتوقيت غر ينتش من بعد ظهر يوم الأربعاء 22/7/1987 في شارع (إيفز) في لندن حيث يقع مقر جريدة القبس الدولية التي كان يعمل فيها ناجي في تلك الفترة .

الفنان يوسف عبدلكي كتب في مجلة العربي يقول :

المعروف أن القتل حدث في أحد شوارع لندن، وردت ثلاثة أسماء في القضية التي حققت فيها أجهزة الأمن البريطانية: بشارة سمارة، إسماعيل صوان، عبد الرحيم مصطفى.

الأول كان على علم على ما يبدو بالاغتيال، وثم تسلميه فيما بعد إلى إسرائيل، الثاني عميل للموساد تم تسريبه إلى القوة 17 الفلسطينية. تم الحكم عليه بـ 11 عاماً لحيازته أسلحة، وليس متهماً بالاغتيال أو المساعدة فيه.

الثالث يُعتقد أنه هو مطلق النار على ناجي، عضو في القوة 17، اختفى إثر الحادث، ويقال أنه غادر بريطانيا والتجأ إلى أحد مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية ثم اختفت آثاره، فلا يعرف له مكان، ولم يشرح لأي وسيلة إعلامية ملابسات الموضوع دافعاً التهمة عن نفسه، كما لم يصدر عن منظمة التحرير أي بيان أو إشارة حوله.

جريدة السفير ذكرت بتاريخ 18/6/1988 أن الحكومة البريطانية استدعت السفير الإسرائيلي في لندن و تم إبلاغه بإبعاد الدبلوماسي " إربي ريجف " و الذي تبين أنه ضابط عمليات الموساد في بريطانيا.

و كذلك وجه وزير الداخلية البريطاني دعوة إلى أحد موظفي مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في لندن و يدعى " زكي الحوا " لمغادرة الأراضي البريطانية.

في 29/8/1987 و بعد 38 يوما من إصابته استشهد ناجي العلي متأثراً بجراحة بعد أن فشلة محاولات إنقاذه .

من الذي قتل ناجي العلي؟ ولا نتحدث هنا عن الثلاثة المذكورين فالذي نفذ العملية منهم مجرد آلة لا تختلف عن كاتم الصوت الذي كان في يده، وإنما عن الجهة التي فعلت ذلك

كل الأصابع تشير إلى الموساد، ولكن بكل تأكيد فإن جهات أخرى كانت تخطط لفعل ذلك أو تنفست الصعداء على الأقل لأنه حصل، ولعل هذا ما يميز ناجي العلي أيضا، غير أن من أطلق النار ومن خطط لهذه العملية ومن تنفس الصعداء لم يدفعهم إلى ذلك سوى غبائهم، فناجي العلي ليس من أولئك الذين يموتون لمجرد أنه صدرت باسمهم شهادة وفاة ممهورة بخاتم رسمي، أو شطبت أسماءهم من خانة الأحياء في قيد النفوس ودونت في خانة الأموات، فناجي العلي لم يكن وجودا فيزيولوجيا لكي ينتهي بتوقف قلبه عن الخفقان، لقد كان حالة تفاعلية لا تنتهي عملية التفاعل داخلها بعزل المصدر وإنما تزداد قوة، ولهذا فإن صور ناجي العلي لا تزال تحتل جدران البيوت والغرف البائسة في المدن الجامعية، وظهر حنظلة على أطراف الشال الفلسطيني، وعلى صدور الشباب، والقلائد التي تعلقها الفتيات، والأهم من ذلك أن رسومه التي كانت تنشر في القبس قبل استشهاده أصبحت مشاعا شعبيا وصحفيا، حيث لا تزال الكثير من الصحف تواضب على نشرها، كما لو أن ناجي العلي يعمل في هذه الصحف في وقتنا الراهن.

ولا أدل على ذلك من ضيق المقابر العربية أيضا بجثمان ناجي العلي، فقد كانت وصيته أن يدفن إلى جانب والديه في مخيم عين الحلوة، وبذلت عائلته جهداً لتحقيق وصيته و حصلت على التأشيرات اللازمة و على تعهد ببذل كل مساعدة، ولكن ربما لشعورهم بأن ناجي العلي لم يمت بعد فقد تم سد جميع الطرق أمام الجثمان الذي لا يزال في المقبرة الإسلامية في لندن التي ووري فيها كدفن مؤقت ريثما تتهيأ الظروف لنقل رفات الشهيد إلى مخيم عين الحلوة ولم تتهيأ الظروف حتى الآن.

في عام استشهاد ناجي نحت الفنان شربل فارس نصباً طولياً بأسلوب واقعي للفنان ناجي العلي، استغرق العمل به ما يقارب الخمسة أشهر و وضع التمثال في مدخل مخيم عين الحلوة، ولكن هذا أيضا أخذ يسبب لهم الكوابيس على ما يبدو فقام (مجهولون) بإطلاق النار على عين التمثال و تم تفجيره و سحله و جره، لكن أصدقاء ناجي أعادوه إلى مكانه، ثم ما لبث أن اختفىنهائيا و لا يزال مختفيا حتى الآن.

لم يتخلص أولئك الذين قتلوا ناجي منه، وستبقى لعنة رسوم ناجي العي تلاحقهم حتى بعد موتهم، وستبقى الأسئلة التي طرحتها رسوم ناجي العلي عن الحرية والعدالة وقبل كل شيء عن فلسطين قائمة ما قامت المخيمات خارج فلسطين، لأن رسوم ناجي العلي لم تكن وليدة حدث يسقط من الذاكرة بالتقادم وإنما وليدة حالة ضميرية نابعة عن معاناة جمعية، يدوم فعلها ما دامت هذه المعاناة، وحتى إن انتهت هذه المعاناة فإن رسوم ناجي العلي تتحول إلى إرث تأريخي لهذه المعاناة وستبقى كابوسا لمن قتلوه حتى في التاريخ، كما لن تتخلص رشيدة مهران من تلك اللعنة في يوم من الأيام، الشيء الوحيد الذي يجعلنا نشعر بغياب ناجي العلي الآن هو الرشيدات والرشد الجدد الذين يتنعمون ويفرخون في الظل دون أن يشعر بهم، فقط لأن أحدا لا يفعل ما فعله ناجي العلي.

Air Max 2018 Dunk SB

معرض الصور