التحليق على ارتفاع منخفض!

قيم هذا الموضوع: 
لا يوجد تقييمات
المصدر: 
جريدة الراي - الكويت
الكاتب: 
إبراهيم صموئيل

ربما كان الكاريكاتير، من بين الفنون والآداب جميعها، الأشدّ كثافة وإيجازاً للفكرة، إذ يتجه إليها مباشرة ليُظهر لبّها، ويقدّمه مشعّاً مفعماً بالدلالات لمشاهديه. في أقل من دقيقة يُقرأ، ولزمن طويل يمكن أن يمكث في الذاكرة ويحرّك الوجدان، وهو الفن الأقوى بلاغة في وضع الإصبع على الجرح، أو في رشّ الملح على الجر -كما يقال- لتلتهب المشاعر والأحاسيس والمواجد بلمسة واحدة.

من بين تلك الرسوم التي تغوص داخل الإنسان لتكشف عن جوهرٍ فيه أجرؤ على القول إنه جوهر خالد، رسمٌ للفنان الأرجنتيني الأصل الذي عاش في إيطاليا «إكينو» وفيه نرى رجلاً يصرخ بامرأة، مطوّحاً بيديه تارة، وضارباً على صدره تارة أخرى، ومتلوياً في حركات غاضبة ثائرة، في حين تنكفئ المرأة وترتدّ وتفزع منطوية في استجابات مذعورة لحركات الرجل الغاضبة، حتى إذا ما رنَّ منبه الساعة قربها، توقفا معاً وارتسمت على وجهيهما ابتسامات الرضا، فقام الرجل بنقد المرأة بعض المال ومصافحتها بحرارة الامتنان، ثم بالخروج من الغرفة عبر الصالة التي نُفاجأ بوجود عدد من الرجال فيها وقد بدت علامات الحزن والانكسار والغضب على وجوههم، حيث تقوم المرأة بدعوة أحدهم للدخول كي يطلق ما في أعماقه من مشاعر مكبوتة وهموم متراكمة في حركات حادّة متنوعة تنفّس عن كربه وغضبه!!

ليست عيادة لطبيب نفسي، بقدر ما هي فضاء. فضاءٌ ولو كان ضيقاً ومحدوداً وسرياً للتعبير والبوح والشكوى. ما من طاقة للمرء على سجن انفعالاته وآرائه ومشاعره الداخلية إلى ما لانهاية. ما من قدرة له على الاستمرار في الصمت. فالحاجة إلى رفع الصوت، إطلاق سراحه وتظهيره، ليس ضرورة يمليها الواجب، أو يفرضها الالتزام بالتعبير عن، أو تقتضيها المشاركة في بناء الكذا... بل هي، قبل ذلك وأهم من ذلك، حاجة صرفة تستمد ضرورتها من نفسها، من كون العين وجِدَتْ لترى، والأذن لتسمع، والصوت لينطلق عبر آية نافذة، أو كوة، أو أي ثلم كي لا يمكث داخل صاحبه، ويتفاعل في الخفاء والعتمة فيقتله كالسمُّ، أو يخنقه كمداً.

ما الذي أنجزه رجل الرسم هذا إذ دخل مغموماً مهموماً متهدّماً، وخرج متخفّفاً باشّاً متماسكاً؟ ليس أكثر من رفع الأثقال التي تنوء تحتها روحه، ليس أكثر من حكِّ الصدأ وكشط طبقاته التي كادت تئد صوته، ليس سوى منح رأيه ورؤيته وتعبيره فرصة للتحليق، ولو على ارتفاع منخفض، كي لا يتحوّل الفضاء لديه إلى فراغ لا طائل منه ولا ضرورة له.

ألهذا عجز الطغاة،على اختلاف أنواعهم وطرائقهم، عن خنق الأصوات وكمِّ الأفواه ووأد طاقات التعبير منذ سبارتاكوس إلى اليوم؟! ألهذا كانت محاولاتهم تجري عكس منطق التاريخ والحياة وأسّ وجود الكائن الحي؟! ولعلي لا أنسى يوماً ذلك المشهد حين كنت أعبر أمام منشرة كان صاحبها قد جمع على أرضها جذوع أشجارٍ وسجّاها بعضها فوق بعض بعد أن أزال أغصانها وقطعها من الرأس والأسفل لتجفيفها وبيعها... كيف لمحت على أطراف اللحاء، هنا وهناك، غصينات خضراء صغيرة يانعة وقد شقّت لنفسها معبراً نحو ضوء الشمس!

وبعدُ...

لا يهمّ، في اعتقادي، إذا كان صوت رجل الرسم لم يتجاوز أذني المرأة ومسمعها، ولا إنْ هو لم يخرج عن حدود الجدران الأربعة للغرفة الصغيرة، بل ولا حتى لو تبدّد بعد لحظات من ولادته.... فهذا ليس «مربط الفرس» لا في الرسم ولا في الحياة، إذ طالما ظهّرنا أصواتنا ودواخلنا في غرف صغيرة ضيقة، ولطالما خمدت تلك الأصوات بعد دقائق معدودات من اتقادها، غير أن الأهم، فيما أحسب، ألا تتبلد أصواتنا فتفقد قدراتها كالطيور التي تولد وتلد في الأقفاص جيلاً بعد جيل، وألا تظل حبيسة عتمات دواخلنا، ودهاليز أعماقنا ورطوبتها فتتعفن وتألف الخرس أو الإخراس وتعتاد عليه فلا تتمكن حتى من التحليق ولو على ارتفاع منخفض!

Air Max 95 20th Anniversary Flyknit

معرض الصور