الفنان محمد غبسي أنموذجاً: فن الكاريكاتير في اليمن

قيم هذا الموضوع: 
لا يوجد تقييمات
المصدر: 
جريدة الثورة - اليمن
الكاتب: 
خالد القزحي

فنية بشكل عام كنصوص أدبية متميزة بألوان حقيقية تحمل في طياتهاالعديد من المواضيع وكأنها قصص أو قصائد شعرية لا تختلف في مضمونها عن الخطاب الذي يراه الفنان التشكيلي أو الواقعي أو الكاريكاتيري مناسبا حيث يجب أن تتم قراءته بنفس الطريقة التي نقرأ بها بقية النصوص الأدبية من شعر ونثر. إذا فالمفهوم الأول الذي أحب أن أتعامل به/معه في هذا المقال هو أن الرسوم والصور والموسيقى و كل ما نشاهده أو نسمعه في كافة وسائل الإعلام عبارة عن نصوص أدبية لها مزاياها وأهميتها من حيث اللغة المستخدمة والخطاب الذي يود المؤلف إرساله للمتلقي.
نستطيع أن نرى الرسوم واللوحات الهذا المقال المتواضع يعمد لدراسة نصوص (رسوم كاريكاتيرية) للفنان والرسام الكاريكاتيري اليمني محمد غبسي الذي جذبني أسلوب تعامله مع الرسوم الكاريكاتيرية لحد أني أستطيع التعبير عن بعضها أنها رسائل عالمية تستحق المتابعة والتدقيق في قراءتها كنصوص وليس مجرد الاستمتاع بها كلوحة تعبيرية واقعية ساخرة سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا. سألجأ أولا أن اسأل نفسي : (لماذا الكاريكتير بالذات؟) قبل بدء دراسة بعض الرسوم الكاريكاتيرية التي تم اختيارها لغرض هذه الدراسة المختصرة. عملية الاختيار ليست لردائة بقية الرسوم ولكن تم الاختيار بسبب ضيق المساحة الممكنة للوقت ومجال النشر ولغرض أن ما تم اختياره ذو اثر بالغ في التعبير والرمزية المعالجة لقضايا عديدة منها ما يخص السياسة والإعلام والمجتمع والثقافة ومواضيع لها اثرها في بناء ثقافة مجتمع وتوعيته وحملها لخطاب إنساني.
الرسوم الكاريكاتيرية تتميز بوضوح رسائلها بشكل أكثر سهولة من اللوحات الفنية الأخرى الحاملة لخطابات سياسية أو ثقافية. بغض النظر عن تاريخ الفن الكاريكاتيري الذي يرجع لبداية القرن السابع عشر في ايطاليا أو بداية الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر أو يرجع للرسوم المصرية أو اليونانية ولا يوجد تاريخ ثابت للبداية الفعلية وإلا لقلنا أنها مع بداية الرسم نفسه لأنه لا يمكن للرسم أن يكون إلا مجازيا, ولكن كعلم مدروس بدأ في ايطاليا بحيث تناولها الكُتاب بهذا الاسم لتعني المبالغة في الإضافة والتحميل للصور لتوضيح الهدف بشكل أدق. يعتبر الرسم الكاريكاتيري مثل الإعلانات التجارية في التلفزيون بقوته وباختراقه قلب الصفحات إلا أن مهمته سامية للتوعية كيفما كانت الأغراض والايديولوجيا من ورائه بعكس الإعلانات التي تهدف دائما لجذب مستهلكين. مهما كانت أهمية النصوص والمقالات في صفحة الصحيفة أو المجلة إلا أن رسمة الكاريكاتير أول شيء يجذب الانتباه ليضيف إما ضحكة أو ابتسامة على وجه المتصفح أو امتعاضا وغضبا وبشكل سريع جدا لا يستغرق ثواني للمتأمل السريع. الرسام الكاريكاتيري يكون أكثر جرأة من غيره في إرسال الرسائل الاستفزازية والساخرة ويعتبر ناقدا واضحا للحالات الاجتماعية الثقافية ومعالجا ومصدرا للحالات النفسية للمتلقي لسهولة رموز رسالته بإبداع فني يتميز بالخيال الواسع والمبالغة المستخدمة في رسم الشخصيات أو الأشياء.
كانت إجابة العربي الصبان (رسام كاريكاتيري مغربي) لسؤال صحيفة الشرق الأوسط حول منظوره للكاريكاتير أنه «... خطاب فني ساخر، يمتاز بالوضوح والمباشرة واختصار الكلام، وهو لغة بحد ذاته، لذلك فهو غني عن أية لغة اخرى مضافة، وما يميز هذه اللغة هو جماليتها الرائقة وقدرتها على التكثيف والاختزال مما لا تستطيعه اي لغة أخرى، ويربط الفن الكاريكاتيري بباقي الفنون كونه وسيلة تعبير كباقي الاجناس الإبداعية الأخرى، لذلك يسهل نسج علاقة تربط هذا الفن بمكوناته ومميزاته بباقي الفنون الأخرى، وكلما وظفت هذه العلاقة توظيفا ذكيا وجيدا تصبح ابداعا قائما بذاته.» والرسام الذي نتناول بعض رسوماته اليوم كأمثلة لقوة تأثير وأهمية الرسم الكاريكاتيري في اليمن الرسام/محمد غبسي يستخدم أسلوبا ذكيا بحساسية الفنان ورؤية المفكر وسخرية الناقد الحذق. الرمزية الدلالية التي يستخدمها سيميائيا تكاد تتكلم بحد ذاتها بصورتين : إحداهما لإمتاع عاطفي خيالي يجذب المتصفح للرسمة عن طريق المبالغة في إدخال المجاز الحسي والمبالغة في تمثيل الواقع والصورة الثانية للمتعمق في خطاب الصورة كما سنتكلم أثناء تحليل الرسومات المختارة. وهنا يمكن إضافة فكرة فرناند دي سوسير حول الرموز وأهمية قراءتها وتحليلها ككل وكأجزاء تتفاعل مع بعضها. وأعتبر الفنان غبسي مدركا لهذه العلاقة في الرسومات التي بين أيدينا والتي سنتناولها في التحليل الذي يعتمد أيضا على الأسلوب الوصفي كبداية وعلى النحو التالي :
1- تناول الفنان محمد غبسي موضوع التلفزيون (صورة مجازية ورمزية للإعلام ككل) وتأثيره الحاد والمباشر على المشاهد من خلال رسم جهاز تلفزيون تخرج من شاشته يد تمسك بجهاز تحكم موجه نحو إنسان يرتدي ملابس قريبة لتكون بجامة نوم وهو واقف بالمقلوب . النظرة الأولى لهذه الرسمة قد تدخل إبتسامة لطيفة للفانتازيا الهزلية المستخدمة خلال الصورة. ولكن إن تأملنا بعمق وحاولنا تلافي تلك الإبتسامة بقليل من الجدية للموضوع لارتسمت علامات الحزن والاستياء وربما الندم والغضب. ليس الغرض هنا مجرد وضع صورة إمتاعية بقدر ما هي إرسال رسالة واضحة الخطاب المخبأ وراء هزلية السخرية الثقافية كون جهاز التلفزيون أصبح يرينا واقعنا بالمقلوب ويتحكم فينا زارعا ثقافات جديدة ومعبئاً إيانا بمعلومات معاكسة للواقع , ربما سياسيا وربما اقتصاديا أو غير ذلك ولكنه بالتأكيد ثقافي لأن رمزية جهاز التحكم معناها التحكم الفعلي وليس مجرد إضافة للرسمة فهو عنصر اساسي وبدونه قد تفقد الرسمة الكاريكاتيرية عنصر تأثيرها المهم . أما (بجامة النوم) فهي دلالة سيميائة تدل على المنزل وخاصة غرفة النوم لتعني أن جهاز التلفزيون المعبر عن الإعلام بكل المعاني الجزئية والمجازية أصبح مستعمرا لبيوتنا حتى في غرف النوم ويطالبنا بأن نأخذ كافة معلوماتنا منه .. الخلاصة هنا أن التلفزيون أصبح يستهلكنا أكثر من أن نستخدمه نحن ويعتبر بمثابة المربي لأولادنا بدلا منا ووجود اريل الاستقبال فوق التلفاز لاتجاهين متعاكسين وفوقهما بعض الخطوط داخل الرسمة تعبير رمزي عن قوة التأثير وليس قوة البث ليعني التضادية في المعنى واستخدام المعنى الضد لإرسال الرسالة بشكل ساخر.
و في نفس المجال الإعلامي الساخر هناك رسمة أخرى رغم هزلية الشكل الباعثة على الضحك إلا انها ذكرتني بكتاب نعوم تشومسكي( Media Control, 1997) التحكم بـ/عن طريق الإعلام , والذي وضح فيه دور الإعلام الكبير في التحكم بكافة مشاعرنا وأحاسيسنا واتجاهاتنابأسلوب سياسي وليس بالصدفة. سياسي تعني بالقوة أو بالعنف وكأنه أسلوب قهري لسلب القدرة العقلية وغسل دماغ المشاهد لتعبئته بما يريده الإعلام ولكن بصورة ناعمة تذكرني لمصطلح سارة ميلز (القوة الناعمة) في كتابها (الخطاب Discourse,). الكاريكاتير الثاني يرينا صورة إنسان يقف على رجليه بحيث يظهر الجزء الأسفل منه بصفته الحقيقية لابسا الزي العسكري من بنطالٍ محزوم بحزام عسكري وحذاءٍ عسكري (بيادة) مربوط بإحكام. بينما الجزء العلوي داخل جهاز تلفاز مرتديا ملابس مدنية مكونة من قميص وربطة عنق باللون الوردي ويرسم ابتسامه صغيره على وجهه غير واضحة الملامح للحكم عليها إن كانت إبتسامة ترحيبيه بالمشاهد أم ابتسامة سخرية من غباء المشاهد الذي يصدق ما يراه أمامه دون النظر إلى خلف الكواليس وغرف الإعلام المسيسة والمستعبدة لعقول البشرية بأسلوب جميل وودي وبذريعة الرسالة النبيلة التي يستخدمها المستعمر كلما أراد أن يغزو بلدا ما.
2- البحث عن الأمل والحب ورغبة الحصول على السلام ميزة نجدها في الكثير من الأدباء والفنانين من ذوي الحس الإنساني ولكن تتميز رسائل كل واحد منهم بمستوى الإبداع الذي يمتلكه. نفسيا يمكن تحليل الإبداع الإنساني للفنان غبسي أنه ذو مشاعر عميقة متوهجة ليس إطراءً لشخصه وإنما لما تحتويه بعض رسومه من التعابير المباشرة والمجازية عن الأمل بكافة الطرق. لهذا تم اختيار رسمتين لهما هدفان أساسيان حسب ما أعتقد: الأول يعبر عن العاطفة والرغبة للحصول على مزايا الفطرة الإنسانية من حب وسعادة والثانية سياسية ثقافية تمنع الحصول على المراد المذكور في الهدف الأول.
الكاريكاتير الأول يحمل صورة إنسان يغيب كل جسمه إلا من الرأس الذي يبدو ملفوفا أو مكبلا مكمما فاه ومغمض العينين رغم انحناء راسه للأرض للتعبير عن حالة الانكسار والعجز الدفين وحالة الاكتئاب البادية على جفون العين المتورمة إثر البكاء وأمامه رمز للحب (قلب باللون الأحمر) واقف أمامه مباشرة على خط رفيع. كون الشخص المرسوم مكبلا وعاجزا يمنعه حتى من مجرد التأمل للقلب الذي أمامه. رمزية ملفتة للنظر بشكل قوي حيث يعبر القلب عن الحب الذي قد يكون شبه محرم في المجتمع اليمني. اللون الأحمر لرمز القلب يعبر عن وجوده وعن الرغبة فيه التأكيد على أنه نابض وحي وينتظر من يلتقطه ولكن بمجرد النظر إلى الراس الملفوف والفم المكمم تعبيرا عن عدم القدرة حتى على النطق بهذه المشاعر الإنسانية الجميلة في المجتمع. هذا يذكرني بإجابتي عن سؤال تم طرحه لي من صديقة اثناء ما كنت في المملكة المغربية للدراسة حيث سألت: لماذا نلاحظ وجود شعراء بكثرة في اليمن؟ كانت الإجابة مرة سواءً في ذلك الوقت وكذلك الآن حيث رددت قائلا : لأن الشعر والأدب بشكل عام هو الأسلوب الممكن لقول (أنا أحبك), فالواقع الاجتماعي المحافظ جدا في اليمن إلى حد التزمت قد يجعل الفرد يفقد حياته إذا تجرأ يوما وصارح فتاة بقول هذه الجملة فقط. لهذا يلجأ العديد للشعر لقول كل ما هو مكبوت في أنفسهم في كلمات لا أحد يحاسبهم عليها بشكل جدي. لهذا تعتبر الخلفية الثقافية لهذه الرسمة البسيطة الرموز قوية كفاية للتعبير عن تزمت المجتمع الثقافي لبعض القضايا التي يعتقدها الرسام الكاريكاتيري هنا شيئا فطريا طبيعيا ولهذا فالشخص المكبل هو مجتمع بأكمله رجالا ونساءً.. حيث أي كلمة حب بينهم تكاد أن تكون مستحيلة قبل الزواج وليست رائجة حتى بعد الزواج. بالطبع لا يمكن أن نقيد رسم القلب هنا على مشاعر الحب بين ذكر وأنثى فقط ولكن يمكن أن يكون محبة للبشرية بشكل عام أو نظرة تشاؤم يمكن أن تكون بسبب الحزبية حيث فقد المجتمع تبادل الحب الصادق نتيجة لسياسات الأحزاب السياسية الباعثة للكراهية ...الخ.
الصورة الرابعة التي أود التلميح إليها من رسومات المبدع محمد غبسي تمثل الحالة الوطنية للفنان غبسي حيث ينظر إلى وجود السلام المتمثل في الحمامة البيضاء سيميائيا وحسب المرجعية الثقافية لعلاقة رمز الحمامة وفكرة السلام والأمن. عن طريق التمثيل للواقع الراهن في اليمن توجد حمامة السلام في صورة تحاول كل من بندقيتين ( تم أنسنتهما من قبل الرسام) ركنها وإخراجها من إطارها (اليمن). كلا البندقيتين ناصبتان فوهاتهما إلى الأعلى دون الخروج من صورة الحمامة التي تحملانها. تحليلياً الرسمة معبرة عن استخدام العنف الكائن بين القوى المتناحرة والتي لا تمانع من استخدام العنف ضد البقية لأن كل جهة ترى صورة السلام بمنظارها. الرسمة الكاريكاتيرية تعبر عن مأساة واقعية رغم مبالغتها بإخراج الصورة من إطارها. الخلفية السوداء للصورة تعبر عن احتمالية مستقبل مظلم في حال تم إسقاط صورة الحمامة رمز الحرية والسلام على الأرض أو تم بالخطأ إطلاق طلقة واحدة من فوهة أي من البندقيتين. البندقيتان رمز على انقسام الجيش وربما انقسام الرؤية وتضاد كل منهما مع الأخرى ولكن بأسلوب يتدخل السلاح والعنف فيه بشكل مباشر.
حقيقة، إن أسلوب الفنان محمد غبسي يبعث الأمل حتى وإن كان التعبير عنه في رسوماته متشائما لحد واضح، إلا أن رسالته هي إيضاح الخلل ثقافيا وسياسيا وفي كافة المجالات بأسلوبه المتميز ذي البصمة الواضحة وغير المقلدة لأنها محاكية للوضع اليمني والثقافية اليمنية.
إن دراسة أربع لوحات تعبيرية تعتبر مجازفة مني لأن كل رسمة من هذه الرسوم تحتاج لدراسة أعمق بحد ذاتها. لهذا أدعو كل ناقد إلى تناول هذا الموضوع على محمل الجدية وذلك لتنوع الخطاب وغزارة إنتاج المبدع محمد غبسي وبقية الرسامين اليمنيين الذين نادرا ما نلحظ الإشادة بأعمالهم ورسائلهم الواعية التوعوية.

jordans for sale womens

معرض الصور