المرآة الحقيقية لما يجري خلف الكواليس الكاريكاتير.. وليد الديمقراطية المدلَّل

قيم هذا الموضوع: 
Average: 4 (1 vote)
الكاتب: 
صافي الياسري
لنعترف اننا استوردنا فن الكاريكاتير من الغرب، من اوروبا تحديداً، لكن الأوربيين يقولون، نحن استوردنا الكاريكاتير من الشرق وطورناه ويمكن ان نجد جذوره في الأقنعة التي كان يرتديها الممثلون الشرقيون و(مهرجو الملوك) الشخصيات التي استوردتها (بلاطات) الملوك الاوروبيين، ثم (القراقوز) الدمى المتحركة- هذا ما سمعته من عدد من المتخصصين من رسامي ودارسي فن الكاريكاتير في ايطاليا ومن اشهرهم الفنان انطونيوني فاسكوني الذي لم يقتصر رسمه على الصحافة وحسب بل انتقل الى (التلفزيون). وفاسكوني يوقع رسومه بالحرفين الاولين من اسمه الاول والثاني (اف) ويقول ان هذا التوقيع نفسه تعبير كاريكاتيري تعرفونه انتم (العرب) اكثر من سواكم فانتم ترددون هذه الكلمة حين تعترضون او تضجرون او تشمئزون من شيئ.
ويقول فاسكوني ان الشرق هو الجذر الحقيقي للكاريكاتير وكان وسيلة الفنان لنقد العادات والتقاليد الاجتماعية بالسخرية منها، لكنه لم يرتفع الى مستوى نقد السلطة فالسلطة في الشرق دائماً مقدسة وكذلك كانت في اوروبا، حتى فصل الدين عن الدولة وعندها انتفض الكاريكاتير في جدله الخلاق مع الديمقراطية فهو وليدها وهي وليدته، ولم تعد السلطة بمنأى عن سياطه.
ويقول زميله بيرتو بيرتوليتي- حين يقمع الكاريكاتير ، تقمع الحرية وبمدى حرية فنان الكاريكاتير، أقيس حرية الشعوب واعرف طبيعة الانظمة التي تحكمها، وهو ليس متنفساً للغيظ فحسب كما يريد ان يصوره البعض، بل هو المرآة الحقيقية لما يجري امام وخلف الكواليس.
وهو الفن الذي يعد من اكثر القنوات التعبيرية قدرة على استخراج العديد من اشكال الديمقراطية من جيوب الرقابة التي تفرضها مؤسسات أي نظام سلطوي في العالم.
والحديث عن اتجاهاته السياسية النقدية اشبه بالحديث عن زجاجات المولوتوف المعبأة بالبنزين والبارود، لها شكلها اويقاعها وزمنها الذي تنفجر فيه، ويحدث انفجارها دوياً هائلاً.. ليس دوياً صوتياً شكلياً وحسب، وانما جملة من الحلقات التي تشبه الحلقات او الموجات التي يحدثها القاء حجر في بركة راكدة، لكنها موجات لا تحتجزها ضفة ما، فهي تنفجر على البر أيضاً. ومن الواضح اننا في المنطقة العربية نفتقد الفعالية الكاريكاتيرية الحرة، والسبب معروف فهيمنة السلطة (شمولية) بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وتمتد الى ادق شعيرات المجتمع وفعالياته. لم تكن رسومات (غازي) احد رواد الكاريكاتير العراقي على سبيل المثال تعالج اموراً سياسية، بل كان هدفها الاضحاك ليس الا، وكان مجالها (اجتماعياً) واحتالت على (الاغاني) في اغلب الاحيان بسبب سذاجة كلماتها. وكذلك فعل الرسامون الاخرون من دون ان يرتقي أي رسم الى مواجهة السلطة (نقداً)، فقد كانت اوطاننا محكومة من قبل شرائح او نخب ارستقراطية توارثت السلطة عبر عشرات القرون وهي في مجمل انتمائها عرقية طائفية، شوفينية متعصبة، لا تملك الاستعداد او القدرة او الرغبة في الحوار مع الاخر الا بالسيف.
وهي تمارس ذلك الحوار كل لحظة ضد المواطن العربي ومن يشاركه العيش في رقعة الوطن، فتشيد كل يوم ناطحات من القمع والاستبداد، ولم تعد (الحرية) سوى كلمة في لافتات (السلطة) ذاتها، فاقعة فارغة المحتوى ربما سمح للمعارضة المدجنة او الشكلية برفعها ذراً للمراد في العيون. اما في اوروبا فالامر يختلف حيث (جدية المعارضة) وفي (ايطاليا) تحديداً كانوا يطلقون على لافتات المعارضة النقدية اسم (فوميتي)، وقد تطور استخدام هذه (الكلمة) ليرمز الى أي رسم يحمل تعليقاً، فاصبحت الرسوم الكاريكاتيرية التي تحمل في سطوحها العليا (هالات دخانية) داخلها تعليقات مكتوبة هي التي تدعى (فوميتي)، وهذا المصطلح الايطالي الاصل غطت شهرته جميع بلدان اوروبا- وفي السنوات الاخيرة اخذ حيزاً كبيراً في واقع الحياة الثقافية لعموم المواطنين الايطاليين، فهو موجود في الكتب الصغيرة المطبوعة بطبعات شعبية رخيصة يحمل عدد منها شكل المسلسلات القصصية (السياسية والبوليسية والجنسية والعاطفية) وهي متداولة بكشل يفوق حد التصور، اذ اصبحت ظاهرة عامة في الحياة اليومية للشعب الايطالي، حيث تقرأ هذه الكراريس والمجلات (الدخانية) في الشوارع والحدائق ووسائط النقل.
وتطور فن (الفوميتي) ذكاء ومكراً، وهو يخترق حصون السياسة والمجتمع وفعالياته الثقافية والفكرية والفنية وعاداته وتقاليده وعقائده حتى .
وفي السياسة اتخذ (الفوميتي) او الكاريكاتير طابع السخرية اللاذعة للتحريض والمعارضة ضد الساسة الذين اشاع الكاريكاتير تسميتهم بنبلاء الحرب، او مشعلي الحروب والفتن والمزايدات ومسببي الالام والمصائب والفقر والجهل ومواقع الخلل والبيروقراطية.
ولا تخلو المجتمعات الغربية، وابرزها المجتمع الايطالي، من محاكمات حقيقية للصورة الكاريكاتيرية ومن ثم محاكمة الرسام ومن الامثلة على ذلك الدعوى التي رفعها قبل ثلاث سنوات رئيس وزراء ايطاليا ماسيمو داليما ضد رسام، كاريكاتير صحيفة (الريبو بليكا) -الجمهورية- الايطالية، يطالبه فيها بتعويض يصل الى 500 الف دولار لانه اساء اليه برسم كاريكاتيري يتهمة فيه بالتحايل على احزاب الائتلاف الحاكم الذي يقوده.
ويعد الايطاليون انفسهم سادة الكاريكاتير، حتى انهم الغوا في العديد من رسوماتهم (الهالة الدخانية وتعليقاتها) فصارت الصورة المرسومة تعبيراً حاذقاً لا يحتاج الى تعليق وبهذه العبقرية انقذ الفنان نفسه من محاكمات عديدة يمكن ان يجره التعليق اليها، ويضع الايطاليون الفنان تشيمبولدو على رأس رسامي الكاريكاتير في عصر النهضة برغم ان ليوناردو دافنشي برع في هذا النوع من الرسوم، وبخاصة حين رسم معركة (دانجاري) التي وقعت بين الفلورنسيين واعدائهم باسلوب ساخر وتهكمي، وقد انتشر الكاريكاتير في جميع انحاء العالم فلاتكاد تخلو صحيفة او مجلة من صورة كاريكاتيرية، بل غزا الكاريكاتير عدداً كبيراً من شاشات التلفاز.
وإذا كان الكاريكاتير في البلدان العربية قد وجد مكانته هو الاخر في صحفها، منذ بداية القرن الماضي، في مصر التي نشأت فيها حركة ثقافية واسعة، وفي لبنان حيث وجد الكاريكاتير هامشاً وان كان ضيقاً نسبياً من الحرية، وفي الكويت التي تميزت بنوع من الديمقراطية ذات الاعتبارات الخاصة، لكنها متفردة والتي اهتمت بالصحافة الى حد بعيد فصارت احد مراكز انطلاقها،  لكن الكاريكاتير العربي لم يخرج عن اطار (الاضحاك) بعد ولم يضع قيد الفعل الواقعي ابعاده ومضامينه السياسية والاجتماعية والثقافية التي يستطيع من خلالها تفعيل حريته وقدرته كفن جماهيري مؤثر، ومع ذلك فقد حاول عدد من الفنانين العرب العزف على الاوتار المحرمة، فدفع بعضهم حياته ثمناً لهذه (الخطيئة) مثل الفنان المبدع ناجي العلي ، وهجر البعض اوطانهم كما فعل الفنان العراقي الرائد بسام فرج، وفر الراحل مؤيد نعمة الى الاردن مدة من الزمن حتى انهار النظام البائد، وعندها عاد الى بلده ريشة  عنيدة جريئة حتى اخر لحظةعايشته  فيها  في صحيفة المدى وقبلها في صحيفة النهضة ، ومن الواضح اليوم ان فن الكاريكاتير في العراق ينطلق انطلاقة جديدة يحسده عليها كل فناني الكاريكاتير في المنطقة العربية.
فالفنان المصري (عبد السميع) فرض عليه الصمت اجباراً ومنعت الصحف المصرية من التعاطي معه، وعانى الفنان (زهدي) من السجن والاعتقال لمدد طويلة ومتكررة وحورب في رزقه، ومازلنا نتذكر الدعوى التي رفعها ممثل الاتحاد الاشتراكي المصري ضد الفنان صلاح جاهين بتهمة الإساءة اليه.
والفنان العراقي يجد اليوم ساحة مفتوحة أمامه الا انها في الحقيقة ساحة مازالت ملغومة، فالشخصيات السياسية والاحزاب والحركات الناشطة على الارض العراقية لم ترتفع بنظرتها الى الكاريكاتير كفن شعبي، يمثل بارومتراً حقيقياً لما يتفاعل داخل الشارع العراقي، او وجهة نظر نقدية تستحق الاحترام، او على انه نوع من الحوار المقبول في الاطر التي لا تقفز الى حدود الإساءة المعروفة. ولهذا نجد الفنان العراقي يبتعد عن (المواجهة السياسية) وان كان يدور حولها، ، ولكن بامكانك ان تلمس الكثير مما يرمي اليه الفنان خارج حلقات تلك المواضيع التي تشكل وحدها الهم العراقي الأول، والشوط مازال يتسع امام الفنان العراقي مع الايام ومع رسوخ الديمقراطية وعنايتها بوليدها المدلل - الكاريكاتير-.
Air Jordan XXXI 31 Shoes

معرض الصور