بيار صادق يرسم ملامح لبنان منذ أربعين عاما

قيم هذا الموضوع: 
لا يوجد تقييمات
المصدر: 
موقع منصات

 

رسوم بيار صادق الكاريكاتورية، المدرجة في أعلى الصفحة الأخيرة من جريدة ما أو المعروضة خلال الدقائق الأخيرة من نشرة الأخبار المسائية على شاشة التلفزيون، أصبحت الآن جزءا من الحياة اليومية في لبنان. بدأ بيار صادق مشواره المهني قبل أربعين عاما، في أواخر عقد الخمسينات الماضي، وما زال يعمل في بيروت لدى صحيفة "النهار" اليومية وقناة تلفزيون "المستقبل"، وينتج رسمين للكاريكاتور، في نوبتين من الإلهام، كل يوم. إنه روح متمردة وموهوبة، وذو ظمأ لا يرتوي للحرية.

يستقبل رسام الكاريكاتور زواره في مكتبة بقناة تلفزيون "المستقبل"، التي تملكها أسرة الحريري. يصل إلى مكتبه في أولى ساعات العصر ويبدأ بغربلة الأخبار والبيانات. يطالع صحف اليوم ويلقي نظرة على تقارير وكالات الأنباء. يستمع إلى الإذاعة ويتابع نشرات الأخبار في التلفزيون.

يعلّق بيار صادق قائلا: "من السهل دائما إيجاد فكرة، وخاصة في لبنان. فهناك دوما مزيد من  الأخبار"، ثم يضيف بإنشراح: "تتزامن الأحداث أحيانا، فأقوم أنا بمزج عدة أفكار معا، فهناك في لبنان ثروة من مجريات الأحداث". يبدأ  بيار صادق يوم عمله برسم الكاريكاتور لعرضه في ختام برنامج الساعة الثامنة على شاشة تلفزيون "المستقبل"، "طالما أن تسجيل الرسوم وتحريكها يستغرق قدرا من الوقت". ثم يمضي ليعمل في الصورة التي ستنشرها جريدة النهار اللبنانية الرئيسية في اليوم التالي.

تخرّج بيار صادق من الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، وعمل طوال حياته رساما للكاريكاتور. وكان قد بدأ في بيع لوحاته لوسائل الإعلام وهو ما يزال طالبا بعد. كان رسامو الكاريكاتور قلّة في لبنان حينذاك، إثنان فقط لا غير: ديران عجميان وخليل أشقر، فأصبح هو ثالثهم. كان رساما ماهرا، لكن بعض الناس لم يكونوا يفهمون عمله، حتى من الطبقة المثقفة جدا مثل مُلاك الصحف.

في بداية مشواره المهني، عمل صادق بيار لحساب صحيفة يومية كانت من الصحف المشهورة آنذاك: الصياد. وكان مدير تحريرها، السيد سعيد فريحة، من المعجبين بشخصية الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وكان يستاء لذلك على الدوام من الأسلوب الذي يصوّره به بيار صادق، لكن الأخير لم يغير قط شكل رسومه لعبد الناصر برغم شكاوى رئيسه في العمل وتذمره منها. ويتذكر الفنان في هذا الصدد: "كان يقول لي إنني أجعل عبد الناصر يبدو قبيحا في رسومي، وكنت أجيبه بأنني رسام كاريكاتور وليس مصورا للأشخاص".

وفي أحد أيام سنة 1958، إلتقى بيار صادق بغسان تويني، مدير تحرير جريدة  النهار، الذي عرض عليه العمل معه، ولم يتردد بيار صادق في إغتنام الفرصة. وخلال إشتعال أوار الحرب الأهلية اللبنانية، غادر بيار صادق جريدة  النهار سنة 1978 ولم يعد إليها لغاية 1992، بشرط واحد: العمل بكامل ما يشاء من الحرية. كانت مكاتب جريدة  النهار في تلك الأوقات العصيبة موجودة في المنطقة الغربية من بيروت بينما كان بيار صادق يسكن في منزل بالمنطقة الغربية من العاصمة، ولذلك وجد نفسه مرغما على ترك النهار وبدء العمل مع صحيفة ثانية،  الأمل، حيث أصر على الإحتفاظ بحريته في التعبير برغم إنتماء تلك الصحيفة إلى خط حزب الكتائب المسيحي. وفي أواخر عقد الثمانينات الماضي، ترك صحيفة  الأمل ليلتحق بصحيفة  الجمهورية بعقد عمل محدود الأمد بسنة واحدة.

بيار صادق

الرسوم المتحركة

في عام 1985، دخل بيار صادق ميدان العمل التلفزيوني بفكرة مبتكرة عرضها على سمير جعجع، زعيم القوات اللبنانية (الميليشيا المسيحية)، الذي كان قد أطلق للتو المؤسسة اللبنانية للإرسال (تلفزيون إل بي سي). كان بيار صادق راغبا في بدء شيء جديد بالكامل: رسوم كاريكاتور سياسية متحركة، فعيّنه سمير جعجع مسؤولا عن المشروع. وهكذا دشّن بيار صادق أولى شخصياته المتحركة في مايو/أيار سنة 1986 وواصل عمله لدى القناة التلفزيونية المذكورة حتى سنة 2002. وما أن غادر بيار صادق تلك القناة حتى استدعته محطة تلفزيون المستقبل ووعدته بالعمل لديها في إستقلالية تامة.

وعلى الرغم من أن بيار صادق تعاون أو عمل دائما مع وسائل إعلام مسيّسة، مثل صحيفة  الأمل (التابعة لحزب الكتائب المسيحي) أو قناة  إل بي سي (التابعة لميليشيا القوات اللبنانية)، أو تلفزيون  المستقبل (الذي أسسه رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري)، إلا أنه لم ينتسب إلى حزب سياسي قط، لأنه صبّ همّه الأكبر في الحفاظ على استقلاليته وتمرده وعلى نزوعه إلى الإستفزاز بعض الشيء. وهذا ما يحسّ به محدثه عندما يسمعه يسترجع بعص مغامراته مع أجهزة الإستخبارات وعملاء آخرين نشطوا في لبنان منذ أواخر خمسينات القرن الماضي. ويحتفظ بيار صادق في ذاكرته بجميع الأحداث وبجميع التواريخ والرسوم المتحركة، وبكل مَن خصّه بالنصح، بالتهديد أو بالإعتقال.

ويشير بيار صادق إلى أنه تلقى مؤخرا إتصالا هاتفيا من طرف "حزب الله"، لإبلاغه بأنه أصبح محظورا عليه من ذلك الحين فصاعدا رسم أمين عام الحزب الشيعي الأصولي المذكور، الشيخ حسن نصر الله، الذي يعتبره بعض أتباعه رجلا مقدسا يمنع الإسلام رسمه أو تصويره. ويعلّق بيار صادق محتجا: "أنا أركز على السياسة، وليس على الدين، فهذا ليس ميداني، ولكن حسن نصر الله شخصية سياسية كذلك. ومع كوني مسيحيا مارونيا لم أنقطع يوما منذ بداية مشواري الفني عن تصوير رجال الدين المارونيين في رسومي واعتدت على رسم الرئيس اللبناني السابق، شارل الحلو، في زي قس يسوعي، ولم يتذمر أحد من ذلك أبدا، فكيف يمكنهم إذن أن يعترضوا على رسمي حسن نصر الله؟!". وفي اليوم التالي على إستلامه تلك المكالمة الهاتفية، رسم بيار صادق أمين عام "حزب الله" على الصفحة الأخيرة لجريدة  النهار، ولكنه لم يتلق بعد ذلك أي إتصال على الهاتف من أحد في ذلك الشأن.

اشهر شخصيات بيار صادق

تحاشي إلقاء التحية العسكرية

غادر بيار صادق قناة تلفزيون إل بي سي في عام 2002 لأن أجهزة الإستخبارات كانت تزرع الخوف في دور وسائل الإعلام والإعلاميين المعارضين للنظام الموالي لسورية. وكانت معظم تلك الإجراءات ترجع لتوجيهات اللواء جميل السيّد، رئيس مديرية الأمن العام الموجود حاليا وراء القضبان في قضية إغتيال رفيق الحريري. ويوضح بيار صادق: "كان جميل السيّد وسورية يضغطان على قناة إل بي سي لتطردني، ولذلك قررت الإنتقال منها"، ويضيف بتعجب: "وكيف لا أفعل وجميل السيّد لا يكف عن تهديدي! ويبعث لي برسائل لحملي على التوقف عن انتقاده وانتقاد أصحابه".

ويمضي بيار صادق في إسترجاع شريط ذكرياته: "في عهد رئاسة ايميل لحود [التي إنتهت فترتها في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي]، تمادى الجنرالات السوريون واستدعوني ليبلغوني بأن رسم رئيس الدولة أمر مناف للقانون، فاضطررت إلى أن أجيبهم بأنني أرسم رئيس بلادي وليس رئيس بلادهم هم". ويضيف: "حاولت أجهزة الاستخبارات معي بشتى الطرق والوسائل، وسعت حتى لإغرائي بعرض سخي: ففي سنة 1968 وجّه الجيش دعوة لي بالعمل كرسام للكاريكاتور لدى وزارة الدفاع، وعرض عليّ أحد الضباط راتبا فاحشا، مع منزل وسائق خاص وأرصدة لدفع نفقات دراسة أولادي. وكل ذلك لقاء ترك عملي مع جريدة  النهار. فشكرته وقلت له إنني لا أستطيع أن أدخل إلى مبنى وزارة الدفاع صباح كل يوم والقي التحية العسكرية".

ويذكر بيار صادق بوضوح حادث اعتقاله خلال رئاسة فؤاد شهاب (1958-1964)، ويقول: "زارني رجال المكتب الثاني [المخابرات العسكرية] في منزلي في تمام الساعة الثامنة صباحا، واستجوبوني طوال ساعات وأنا واقف على قدميّ من دون أن يسمحوا لي بالجلوس". وعندما عاد إلى مكتبه في صحيفة  النهار، وجد بيار صادق أن رئيسه غسان تويني قد اتصل بمدير مكتب المخابرات ليقول له: "في المرة القادمة التي تصطحبون فيها معكم بيار صادق، خذوني معه".

وعلى الرغم من أن بيار صادق لم يبدأ مشواره الفني مع جريدة  النهار وبرغم عمله مع مطبوعات أخرى، إلا أن علاقته بالصحيفة المذكورة كانت علاقة من نوع خاص. ففي الواقع، كان هو الذي ابتكر فكرة رسوم الكاريكاتور على ثماني أعمدة في غلاف الجريدة الأخير والتي حافظت على شكلها بلا تغيير منذ ظهورها سنة 1963. ويصف بيار صادق بافتخار كيف أن أكشاك بيع الصحف في مركز بيروت قبل إندلاع أوار الحرب الأهلية اللبنانية في 13 أبريل/نيسان عام 1975  كانت تعرض صحيفة  النهار من غلافها الأخير بدلا من صفحتها الأولى، لكنه يعترف بأن "ذلك لم يكن يرق لبعض صحفيي الجريدة". ولما عادت نسائم السلام إلى ربوع لبنان في سنة 1992، إتصل مدير تحرير النهار آنذاك، غسان تويني، ببيار صادق، الذي كان قد غادر الصحيفة بسبب ظروف الحرب، ليعهد إليه بالعمل في الصفحة الأخيرة من جديد.

مقاومة الرقابة الذاتية

قبل بيار صادق الدعوة، بشرط واحد: "التعبير بحرية تامة"، لأنه أراد ببساطة القضاء على الرقابة الداخلية في الصحيفة. ويوضح في هذا الصدد: "العملية مباشرة وواضحة، أنا أنتج رسما كاريكاتوريا وإذا لم يعجب رئيس التحرير فلا يخرج للنشر، لأنني لا أقبل بتعديله أو تغييره ولن أعوضه برسم جديد". ويستطرد: "في بعض الأحيان، يشعر مدراء تحرير النهار بالقلق تجاه ردود الفعل التي تثيرها رسومي، ويستطيعون في مثل تلك الحالات إتخاذ قرار بعدم نشرها، ولذلك فاذا وقع في يديك عدد من صحيفة  النهار لا يحتوي على رسوم كاريكاتورية فلتعلم إن ذلك بسبب رفضي لإدخال أي تغيير عليها".

يرفض بيار صادق بوضوح الإستسلام للرقابة الذاتية، ويقول: "بصفتي رساما حرا للكاريكاتور، عليّ أن أكون جريئا. أنا لا أفكر بالناتج النهائي عندما أعمل، وأحيانا تشعر زوجتي وأولادي بالخوف من تأثير رسومي". ولكنه يؤكد بلا تردد: "عندما أرسم لا أفكر في خوف أو تهديدات، بل أعيش لحظتي مع رسومي وشخوصي. لا أركز فكري وانتباهي في نفسي أو في عائلتي وإنما في ما أرسم فقط"، ويرى أن "تعزيز الحرية بلبنان، في نظري، واجب على كل واحد منّا، فلبنان هو البلد الوحيد في الشرق الأوسط الذي انفتح فيه الباب على الحرية، ومن مسؤوليتنا أن نستفيد من ذلك".

 

jordans for sale amazon

معرض الصور