جو ساكو.. فنان الحقيقة الساخرة

قيم هذا الموضوع: 
لا يوجد تقييمات
المصدر: 
جريدة الشرق الأوسط - لندن
الكاتب: 
ربعي المدهون

 

فلسطين ـ إسرائيل: صراع في خطوط هزلية بالأبيض والأسود

 

ما ان تنتهي من قراءة المقدمة التي وضعها الراحل ادوارد سعيد لكتاب جو ساكو «فلسطين»، حتى تستقبلك القاهرة في خطوط رمادية تتدرج على مساحات الأبيض والأسود، ترسم مشهدا بانوراميا مكثفا، كأنما يريد ان يروي حكاية المدينة دفعة واحدة: وسط ـ أسفل المشهد، نرى الشابين المصريين، طاهر وشريف، خلال تناولهما مشروبا في فندق يطل على وسط المدينة. ساكو يضع سيناريو للمشهد ويروي: «اسحب كرسيا». «اريح قدمي من التعب». «امضي وقتا مع عمال الاستقبال». «المكان هنا مريح بشكل افضل، وحوار طاهر وشريف صار فلسفيا».... ونتابع ما يرويه ساكو الذي يقدم لقارئه في ثلاث صفحات فقط، كل ما استخرجه من حوار يدور بين الشابين، من مفاهيم اجتماعية ودينية وسياسية بطريقة شديدة السخرية، تنتهي بمغادرته القاهرة الى فلسطين، حيث ينفتح المشهد على مائة عام من الصراع.

في هذا الكتاب (285 صفحة من القطع الكبير، صادر عن «فانتاغرافيكس بوك» عام 2001، ثم «جوناثان كيب» ـ لندن ـ عام 2003)، الذي اطلعت عليه متأخرا بعض الشيء، يحاول ساكو «ان يحصل على صيغة واقعية ومحايدة، لواقع بعيد كل البعد عن الموضوعية والمعقولية». على ما كتب ادوارد سعيد في مقدمته الرائعة، التي لم يكتف خلالها بالاحتفاء بأعمال ساكو المميزة في عالم «الكوميك»، والتي التقطت احداثها وشخوصها من اكثر المواقع سخونة في العالم: البوسنة والهرسك، فلسطين، العراق، بل جعل منها دراسة اكاديمية عميقة في هذا النوع من الفن الذي يسرد الوقائع بتعاون خلاق بين النص والخطوط السوداء في تدرجاتها الرمادية.

ساكو استطاع اكثر من ذلك، فسعيد يقول انه قدم «عملا سياسيا جماليا ابداعيا بصورة استثنائية، مختلفا عن امثاله، وعن الجدل الصاخب والمتداخل بلا أمل، الذي يسيطر على الفلسطينيين والإسرائيليين ومؤيديهم. وباستثناء شاعرين وروائيين اثنين ـ لم يسمهما سعيد ـ لم يستطع احد ان يقدم جردة حساب لهذا الوضع المرعب، افضل مما قدم جو ساكو».

ولد جو ساكو في جزيرة مالطا، ويقيم حاليا في نيويورك، حيث يعمل كصحافي ورسام كاريكاتور. وكان قد حصل على شهادته الجامعية في الصحافة من جامعة اريغون عام 1981.

في اواخر عام 1991 واوائل 1992 امضى ساكو شهرين في المناطق الفلسطينية، متنقلا بين المخيمات والمدن، زار بيوتا عديدة، ومدارس ومستشفيات والتقى جرحى وأهالي شهداء. سجل الملاحظات ودون الحكايات التي استمع اليها، وعندما عاد الى الولايات المتحدة اواسط 1992، جمع ما دونه وسمعه وشاهده، واشتغل على كتابه «فلسطين» مستخدما تقنية جديدة جمعت بين اسلوب التقرير الصحافي الميداني والغرافيك الساخر (كوميك) حيث الخطوط تروي الحكاية بالتفاعل مع السرد المرافق والتعليقات الساخرة.

لم يكن ساكو اول من استخدم الرسوم الهزلية في وصف الصراعات الساخنة، فقد سبقه الى ذلك آرت سيغمان عام 1986، عندما اطلق المجلد الأول من كتابه «ماوس» وتناول فيه «المحرقة اليهودية». ومن بعده تناولت الرسامة التصويرية مرجان ساترابي الثورة الاسلامية في بلادها في كتابها «بيروسبيلوس». وحين لحق ساكو بهما، ركز اعماله على الشرق الأوسط. انجز تسع مقطوعات نشرت تباعا، وهي التي اصبحت لاحقا، فصول كتابه «فلسطين»، وعلى الحرب في البوسنة من خلال عمله «منطقة آمنة غوراجدة». لكن ساكو كان بطل المزج بين تقنيتين: الرسم الهزلي والتحقيق الصحافي الميداني، ما يشكل رواية ادواتها النص وخطوط الغرافيك، وتلك كانت اضافته الكبرى. اطلق ساكو عمله «فلسطين» عام 1993، فاستقبل منذ البداية بترحيب كبير، وتثمين لجهة بحثه العميق ودقته، وجرأته في مقاربته واحدا من اكثر الصراعات حساسية وتعقيدا وتعامله معه بطريقة غير مألوفة، محققا مستوى جديدا لاستخدام فن «الكوميك» في أعمال وثائقية.

يبني جو ساكو خطابه «السرد ـ تصويري» اذا جاز التعبير، على ثلاث «ثيمات» تنمو في اطارها حكاياته، وهي العنف والوحشية والتعذيب في ارتباط بموضوع العدالة. في مناخ هذه الثيمات تتطور احداث وقصص تاريخية تقترب في اسلوبها من الرواية المحكية او الحكاية الشعبية. ويبلغ ساكو خلالها مرحلة لافتة في تطويعه اللغة الانجليزية لمتطلبات الحكاية الشفوية، بحيث يمكِّن قارئه من تذوق نكهة لهجة شعبية، كأنما اراد ساكو، ان يبث في كلماته نكهة فلسطينية محلية تتوافق وخطوط رسوماته.

يتواجد ساكو، كشخصية كاركاتورية، في قلب جميع الحكايات، بطلا وراوية وشاهدا عليها. ويظهر بنظارتيه المستديرتين وفمه الواسع وشفتيه الغليظتي.

في الكتاب نشاهد طفلا فلسطينيا احول العينين يقف تحت المطر، وقد اجبره الجنود على التخلي عن كوفيته التي يلف بها رأسه، يستجوبونه من داخل كشك يظللهم. ساكو في هذا المشهد يلعب دور الشاهد الحي على لحظة اضطهاد تبدو عابرة، وربما ليست ذات اهمية، لكنها في الواقع تكثيف مدهش لعملية الاذلال التي يتعرض لها الصبي، ولمعاناته من الاضطهاد والإساءة والقلق بكل اشكاله وحجومه المختلفة.

في تجواله يقذف ساكو بنفسه عند الخطوط الامامية الساخنة، مع المتظاهرين، عند الحواجز العسكرية والمعابر، وداخل الاسواق المكتظة التي تتعرض لعمليات اطلاق نار ولقنابل الغاز من قبل الجنود الاسرائيليين. كما نجده عند الطرق المغلقة بالصخور، والتي تجبر الناس على استخدام طرق ترابية جانبية، يقطعون المسافات الطويلة سيرا على الأقدام. يلتقي ساكو سجناء ومعتقلين سابقين، يروون حكايتهم، ولاجئين ما يزالون يحملون حلم عودتهم في صرة من الذكريات (الرسم رقم..)، وأطفالا جرحى، وفلاحين فقدوا اراضيهم او اقتلعت منها اشجار الزيتون مصدر رزقهم الوحيد، وعائلات تناثر افرادها بين السجن والموت والهرب والبطالة والأحزاب والمنظمات الفلسطينية. من بين اجمل ما نقرأ ونشاهد، وأكثره سخرية ومرارة، صبية تسأل ساكو: لماذا لا يوجد في بلادكم فتح وجبهة شعبية ؟.

في لوحة ترسم العناد الوطني عند الفلسطيني وتمسكه الشديد بأرضه ما ضاع منها وما لم يضع، يسأل ساكو فلسطينيا من مخيم جنين: هل يمكن ان يعيش اليهود الى جانب الفلسطينيين في دولتين منفصلتين؟ يجيبه الرجل: «اليهود يريدون هذه الأرض ونحن نريدها. وحتى لو عادوا الى ما وراء الخط الأخضر، وكان لي كهف في مدينة حيفا، فهو يبقى لي».

ثم يقدمه لرجل آخر معرفا به: هذا فلسطيني، كان له بيت وارض وراء الخط الأخضر اسأله ان كان سيتنازل عنهما في يوم من الأيام!

ساكو يسأل الرجل فيرد، بينما يترجم الأول قوله: يقول لك، انه لو اعطوه ارضا تمتد من هنا حتى باكستان، فإنه لن يتنازل عن حجر من حجارة ارضه التي اخذوها منه.

هاهاهاهاهاهاه

كلما قرأت اكثر تعرفت اكثر على جوانب اخرى في الاحتلال الاسرائيلي، وشعرت اكثر بعمق مأساة الواقعين تحته منذ اربعين عاما. تحاول التوقف ولا تقوى، إذ تستدرجك الرسوم والخطوط وتعابير الوجوه التفصيلية العميقة التي لا تقوى حتى الكاميرا على ضبطها وتصوير انفعالاتها.

حقا «لا يوجد كتاب يشرح الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي بعمق وبطريقة بسيطة وساخرة مثل كتاب ساكو (فلسطين). لقد وجد ان التوازن بين النص المكتوب والصورة المؤثرة ضروري من اجل تفهم تاريخي وثقافي للصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي»، على ما كتب ادوارد سعيد

 

jordans for sale black

معرض الصور