حســن حـاكـم.. الكتـابــة بالكاريكـاتيــر

قيم هذا الموضوع: 
لا يوجد تقييمات
المصدر: 
جريدة القاهرة - مصر
الكاتب: 
رجــب ســعد السـيد

 

أسرتني رسومات " حسـن حاكم " الكاريكاتورية، ودفعتني دفعاً إلي متابعته زمناً، في بعض الدوريات التي كان - رحمه الله - ينشر بها إنتاجه الفني. ووجدت في معظــــم تلك الرسومات، أنها لا تكتفي بمصافحة العين، أو رســـــــــــم ابتسامة هادئة، فقط، بل إنها تدعوك لأن تتوقف، متأمـلاً ومحاوراً؛ فهي تحمل (فكراً)، علي العكس من إنتاج رسامين مناظرين ومعاصرين لحسن حاكم، يتوقفون عند اللحظة العابرة، التي قد تولد قهقهة، وينتهي أثرها بمجرد اختفــــاء صوت تلك القهقهة !. الأكثر من ذلك، أن رسومات حسن حاكم المتميزة تكاد تقفز من إطار الخطوط البسيطة والألــوان القليلة، وتحاول أن تتلبَّــس ثوبـاً مغــايـــراً، فتحكــي قصـــة. من هنا، جاء زعمي بأن حسن حاكم كان كاتب قصة قصيرة، ضـلَّ طريقه إلي الكاريكاتير؛ أو لعلَّه لجــأ إلي لغـة بديلـة لكتابة قصصــه !

لقد قضي حسن حاكم سنوات طويلة مرتبطاً بمجلة (العربي)، يرسم هوامش معظم المقالات الافتتاحية لرئيس التحرير (في عهد الدكتور محمد الرميحي)، بالإضافة إلي رسومات ذات طابع خاص، مصاحبة لبعض الموضوعات الثقافية المتنوعة. ويجب أن أعترف بأن اكتشافي لكاتب القصة حسن حاكم جاء من تجربة مشتركة، فقد رسم - رحمه الله - صوراً لموضوعات نُشـــرت لي بالمجلة، منهـا موضوع في باب (كتاب الشهر) - بالعدد الصادر في أكتوبر 1993 من العربي - وكان عرضاً لكتاب ألفته وزيرة البيئة في (حكومة الظل) البريطانية، حول الرؤية السياسية لحزب العمال تجاه بعض المشاكل البيئية وحلولها. وجاء في عرضي للكتاب، علي لسان المؤلفة : " ... إن أطفالنا يجب أن يكونوا الدافع الرئيسي لنا في معالجتنا لقضايا البيئة؛ فالرضيع الراقد في مركبة تدفعها أمه أمامها في الشارع، هو الأقرب منَّـــا جميعاً إلي مســـتوي مواسير العادم بالسيارات المارقة بجانبه .. إنه - هكذا - يكون أشد التصاقاً بمشكلة تلوث هواء المدن ...".

حاسة فنية

والتقطت حاسة حسن حاكم الفنية هذه اللفتة .. استلَّتهــا من الموضوع؛ فجاء الرسم لأب وأم يدفعان عربة وليدهما بالطريق، بينما غرق مستوي العربة في سحابة كثيفة من الغازات؛ فتجسدت المأساة في (قصة) هذه الأسرة : جاءها وليد (ربما حلمت به وانتظرته طويلاً) .. والوليد هو الأمل - الفرحة - المستقبل؛ وأعدت له الأسرة عربة جميلة، ليستمتع الأبوان بالتنزه وهو معهما، يفتح عينيه علي أضواء الدنيا، ويسمع أصوات الخارج، وهما لا يدريان أنهما يسلمانه - بأيديهما - إلي الخطر يتهدده، متمثَّــلاً في أكاسيد الرصــاص والكربون، التي تملأ الهواء في أنفه ورئتيه، وتغتال اســـتواءه وصحته !. ولا أعتقد أن أي كاتب قصة - يري العالم جيداً - لا يطمع في اصطيــاد مثل هذا الحدث البسيط، ليعالجه، ويجعلنــا نلتفت إلي ما وراءه من حقيقة مــرَّة.

ثم إنني أحببت أن أراجع مدى صحة اكتشافي، فلجــأت إلي مصــدر رئيس لرسومات حسن حاكم، هو مجلة (كاريكاتير)، واخترت منها ما أحاول أن أثبت به أنني لم أكن متجاوزاً حين رأيت في رسومات حاكم قصصاً قصيرة جيدة الصنع؛ بل إنني - ككاتب قصة - وجدت أنه يشاركني بعض الرؤي القصصية التي كتبتها فعلاً، أو أتمني أن أكتبها. ولو كنَّــا في مجال الدراسة المقارنة، لأحلنــا بعض ملامح تجربة حسن حاكم إلي العالم القصصي لدي بعض الكتَّــاب العالميين، مثل فرانز كافكـــا، ودينـــو بوتـــزاتـــي.

ولنبدأ برســـــــــم لرجل تحت مصباح مقطوع السلك. موقف عبثي تام .. فهذا رجل يحمل كتاباً مفتوحاً، ويجلس تحت مصباح يغرق المكان في ضوئه. ينظر الرجل، وتنظر معه، لتري سلك المصباح مقطوعاً، وقد تم ربط طرفي القطع كما لو كنت تربط حبلاً .. أي أن وسيلة توصيل الكهرباء (النــور) منعدمة. فهل ما نراه ضــوء حقيقي ؟؛ أم أننا جميعاً لا نري، وإنما يراد لنــا أن نصــدق بأن الكهرباء تســري وتتحول إلي ضــوء باهــر ؟؛ ومن الذي قطـع الســلك ؟؛ ومن قام بالتزوير، وجاء بالرجـل، وأحاطه بكل هذا الوهم ودعاه ليقرأ ؟؛ وهل ثمة شـك في أن يكون الرجل ذاته ضالعاً في الخداع - خداعنا ؟ .. وهل ثمة صــلة بيـن محتــوي الكتـــاب، وهذه الخدعة القائمة ؟ ... أسئلة لا تنتهي، ولكنها تضفر موقفاً قصصياً رائعاً .

وفي رسم آخر، يقدم لنا حاكم موقفاً غارقاً في العبثية؛ فثمة صيـــاد يتبـادل مكانه مع طائر، فيترك مجاله الطبيعي، وهو سطح الأرض، ويعتلي الشجرة، مصوِّباً سلاحه إلي الهدف موضع فعل (الصيد)، بينما أخذ الهــدف (طــائـــر صغير)، موقـع الصياد، سائراً علي الأرض. وهي لقطة نادرة، علي مستوي التعامل الفني، بالإضافة إلي قدرتها علي تفجير العديد من التساؤلات وإثارة الأفكار .. فالشجرة ملساء، لا سبيل إلي ارتقائها اختياراً؛ والطائر ثابت في مشيته علي الأرض، وكأنه ضمن الأمان .. فمن الصائد ومن الصيــد ؟ . وأين أحكام قانون الجاذبيـة ؟. إن الجاذبية موجودة، والأوزان مستقرة؛ ولكن .. من الذي (سيسقط)، حالاً ؟! . ثم، ألا يمكن أن يتسلل إلي قلوبنا شك بأن ثمة تواطــؤاً بين الطائر وصياده ؟! .

الصفحة الكاملة

ومن نماذج رســومات الصفحة الكاملة، كاريكاتير يحكي قصة عروس حديثة، تزور بيت أمها لأول مرة بعد الزواج؛ وهذا لقــاء تقليــــدي بين (البنـت) وأمهــا، ويكـــون - في العادة - محمـــلاً بالأســـرار النســـائية الصغيــرة - وربما الكبيرة ! - التي تتبادلها (المرأة المبتدئة) مع (المرأة الخبيــرة). غير أن حسن حاكم يخرج بنـا من الحيز الاعتيادي الخـاص، والمحدود، لمثل هذا اللقاء الحميم، إلي قضية عامة، يفجِّـرها في رسمه المركَّــز، محكم البنيــان. ويتخلَّـــي حســـن حاكـم، في هذه اللوحة، عن بســـاطة خطوطـه، ليمـلأ الصــورة بالخطوط والتفاصيل، مهتماً بتضاريس الأجسام، وساكباً الألوان في كل مكان، إضــــفاءً لروح الفـرح والمـرح علي الموقف. إن كاتب القصة يفعل الشيء ذاته، عند معالجة نفس الموقف. كما أننا مقبلون علي موضوع فيه قدر من (التوابل)، فلا ينســي الفنان المتمكن ذلك، فيعد له العدة، ويصور جسم كل من العروس وأمها بخطوط تبرز المفاتن الأنثوية. وترتمي البنت في حضـن أمهـا، حال دخولهـا من الباب؛ بينما زوج الابنة لا يكاد يبرح العتبة، وقد ترك الباب مفتوحاً خلفه، كأنما يتيح لنفسه منفذاً للفرار، إذا اقتضــت الأمــور !. إن عواطــف الابنة تجيش في حضن أمها، ذات الخبرة، التي تسألها عن (الأحوال). إننا لا نســـمع هذا السؤال، ولكننا نقرأ إجابة العروس عليه، في خليط من الخجل والاحتجــاج، وقد حجبــت عنَّـــا مـلامــح وجههــا في صــدر أمهــا، تقول : " عشــــــوائي يا مـامــا .... " !. وتســـتوعب الأم ما ترمي إليه ابنتهـا، وكذلك نفعل نحن. وبرغم ذلك، فإن الأم - التي لا يبدر عنها أي مظهـر للاحتــجاج، بل تتســع ابتســـامتها - تعود لتسأل، كأنما لإشــباع رغبة لديها في أن تتأكد، تســــأل : " فـي كــل حاجـــة ؟!".

ومن غير حاجة إلي ابتســامة الأم الموجزة، يصــل إلينــا معني العشـــوائية؛ ثم لا نلبث أن نخـرج من البــاب الضيق للمعني، والمحصور في السلوكيات الفراشية، التي وشت بها العروس لأمها - ولنا - لنكتشــف أن العشــوائية ليست - فقط - أن جانباً من البشر، مضغوطين تحت وطأة حاجتهم الشديدة إلي المأوي - أقاموا أكواخهم الفقيرة دون التزام بقانون أو نظــام؛ فهذه ليست إلا صــورة في الطرف النهائي للعشوائية، أو هي نتيجة متأخِّـــرة لهــا؛ وأن الوجود الحقيقي للعشوائية يكمن في كهــوف مظلمة بالأدمغة؛ فذلك (العريس) مارس العشوائية في بعض خصوصياته، والزوجة الصغيرة، والأم، تبدوان راضيتين - ضمناً - فهمــا عشـــوائيتـان أيضــاً؛ ثم نخرج إلي الطريق، والمواصلات، والدواوين، وإلي مراكز اتخاذ القرارات، لنري أن العشوائية ســــلوك ســــائد .. إنها عشــــوائية " في كل حاجة "، كما ألمحــت أم العروس !.

ونشر حسن حاكم في مجلة كاريكاتير (رواية) مســلســـلة، بعنوان " نفيسة ومرســـي"؛ والاســـمان للبطلين الرئيسين، وربما الوحيدين، في الرواية. إنهما زوجان في نهاية خريف العمر، وإن كانت نفيسة تأبي الاعتراف بالزمن، وتعيش وهمـاً دائماً بأنهـا لا تـزال تحتفظ بأشـــياء مما يبحث عنه الذكر في الأنثـي؛ لذلك، نراها في مطـاردة مســتمرة لمرســي، لأن إثبـات وهمهــا لن يتحقق - في تصورها - إلا بـه ومعـه. هي رواية مطاردة، بين صياد يحمل بندقية خالية من الطلقات، وفريسة لا أمل فيها ولا رجــاء؛ فالرجل منهك، يتفنن في إيجاد وسائل الهرب، ويكتفي بالكلمات القليلة، ينهر بها شريكة العمر الذي طال : " عيـــب يـا نفيســـة !"؛ وهو - أحياناً، ومثل معظـم الرجـال - يغلــب علي أمـره، ويظـهر بعض ردود الفعل الإيجابية، فيما يشبه الاستســلام لنفيســة، وإن كان - لا بـــد - يدرك أن الطبيعـة، في النهاية، هي الفيصــل، ولا أقســـي من حكم الطبيعة !.

أزواج قدماء

ويعتمد حسن حاكم، في روايته هذه، علي طبيعة العلاقة بين العجوزين. والمعروف، أن الأزواج القدماء يصبح الارتباط بينهما شديداً، ولا يطيق الواحد منهما فراق الآخـر طـويلاً. وتقل الكلمات في الحوار بينهما، فالخبرة الطويلة ببعضهما لا تجعلهمـا بحـاجة إلي حوار. ومن جهة أخري، فإن طول العشــرة يترك آثـاره من الملل، وربما من النفـور، ويظهـر ذلك بين وقت وآخـر. كما أن عالم كبار الســن يصبح محدوداً، لا أقصــد الحيـز المكاني - فقط - بل يمتد الأمر إلي التطلعات والاهتمامات، وتضيــق شــرايين المخ، وتتصلب؛ ويضيق الأفق - غالباً - ويضيق (الآخــرون) بكثير من تصرفات هؤلاء الكبار؛ وتصبح الحيــاة جحيمـاً إذا كان العجوز وحيداً، فقد - أو فقدت - الزوج. من هنــا، كانت الخصوصية الشديدة لعالم زوجين عجوزين، انتقاهمــا حسن حاكم ليعبر من خلالهمــا عن أحوال وملابســـات هذا العالم المحدود؛ فجعلهمــا يعيشان في حجرة ضيقة، لا يكادان يبرحانهـا؛ فهي عالمهمــا الخارجــي، الموازي لعالمهمــا الداخلـــي.

والحــس الغالب في هذه الرواية المسلسلة، هو السخرية من تصرفات نفيسة ومرسي؛ ولكننــا نري أنهـا ســـخرية لا تهـدف إلــي النيــل من كرامـة كبـــار الســن، بقدر ما تحاول أن تجتذبك لتتعاطف مع (النموذج)، من خــلال ابتســامة تطول أو تقصــر؛ ونجدنا - مع متابعتنــا للمسلسل الروائي - لا نهــزأ من نفيسة ومرسي، ولكن نبتسم في إشــفاق وحــب، بل ونتمنــي أن تنتهي شيخوختنا كشيخوختهمـــا، مليئة بالشد والإرخاء، لا تخلو من تراحم وتعاطف، وأيضاً، من حب لا يعتـرف بانطفـــاء الجــــــذوة !.

ولا نعتقد أن قضية كبار السن كانت غائبة عن وعي حسن حاكم وهو يخطط لمسلسله الروائي عن نفيسة ومرسي؛ فثمة دلائل تشير إلي أن قيم الأسرة العربية، المرتبطة بكبار السن، بدأت في التبدل، وأن المتأخرين في العمر بدأوا يفقدون مكانتهم، بعد انفصــال الأبنــاء وابتعــاد الحفــدة، وأن الوحدة باتت المصير الذي ينتظـر الأب العجوز، أو الأم العجوز، ســواء أكان مقيماً في بيت خلا من الأبناء والأحفــاد، أو (ضيفـــاً)، بدار للمســـنين. وعلي أي حال، فـما زالـت أحوال المسنين عندنا أفضــل من أحوال عجائز أوربا وأمريكا، الذين يمثلون نسبة كبيرة من ظاهــرة (التشـــرد) في تلك المجتمعات (المتقدمة)؛ فلعــل حســن حاكم كان يحاول أن يلفــت أنظــارنا إلي ضرورة مراجعة أحوال المسنين في بلادنـا؛ وجعل ذلك يتم من خلال عرضــه لصفحــات من دفتر أحوال الحيـــاة اليوميـــة لنفيســة ومرســـي .

 

Nike Benassi Slide

معرض الصور