حسن إدلبي تماهـي الراسم بالمرسوم

قيم هذا الموضوع: 
لا يوجد تقييمات
المصدر: 
جريدة الثورة - سورية
الكاتب: 
د. محمود شاهين

 

على هامش احتفالية مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافيّة بتوزيع جوائز دورتها العاشرة التي تشهدها مدينة دبي اعتباراً من الثاني عشر من آذار الجاري،

يقيم فنان الكاريكاتير السوري المعروف (حسن إدلبي) معرضاً لأعماله الجديدة المكرسة لموضوعات سياسيّة ثقافيّة وفنيّة مختلفة، يطول معظمها قضايا عربيّة وعالميّة راهنة، بأسلوبه الفني الكاريكاتيري المتماهي إلى حد بعيد، بخصائص فنَّي اللوحة والملصق، اللذين درسهما أكاديمياً في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، خلال النصف الأخير من عقد ثمانينات القرن الماضي.‏

فهذا الفنان، ومنذ وجد نفسه في محترفات كلية الفنون، شعر بميل عارم لاقتحام عالم الكاريكاتير الواسع المليء بالمشاغبات الباسمة، والوخزات المؤلمة، والانتقادات الموجعة، والمتع المغلفة بالمفاجآت وردود الأفعال السلبية والإيجابيّة. لكن حسن إدلبي، وعلى مدى تجربته مع هذا الفن الحاضر بقوة في وسائل الإعلام المعاصرة المختلفة التي قارب عمرها العشرين عاماً، ظل مهذباً، ناعماً، محباً، وظل في الوقت نفسه، محافظاً على الجمع الموفق والمنسجم، بين الحس النقدي الساخر، الواضح والمعبّر والجديد، وبين جماليات الفن التشكيلي الراقية التي شكلت رافعة نهضت بأعماله، من مفهوم الرسوم الكاريكاتيرية العاديّة، إلى مفهوم اللوحة الفنيّة التشكيليّة المتكاملة الخصائص والمقومات الشكليّة والتعبيريّة،‏ ‏

وهو ما ميزها عن غيرها من التجارب الكاريكاتيرية الأكثر من أن تعد، في حياتنا المعاصرة، إذ لا تخلو جريدة، أو مجلة، أو منشورة، من وجود رسام كاريكاتير أو أكثر فيها. ما يلفت الانتباه في لوحة حسن إدلبي، ليس تفردها الأسلوبي فحسب، وإنما قدرتها على انتزاع الابتسامة من المتلقي عموماً، والمتلقي الذي تعالجه خصوصاً، رغم أن بعض هذه اللوحات، فضحت ببلاغة وقوة، الجوانب العاطلة واللئيمة في شخصية هذا المتلقي، لا سيما تلك التي يحرص على طمرها في الداخل، والتمويه عليها، بهذا الشكل أو ذاك، ما يجعلنا نؤكد، امتلاك حسن إدلبي، لحاسة سادسة، أشبه ما تكون بالرادار المتطور الذي يُمكنه بسلاسة ويُسر، من العبور عبر تضاريس الخارج، إلى تضاريس الداخل الذي يعمل فيها نبشاً ونكشاً وتنقيباً، وصولاً إلى حقيقة طباع وأفكار وعواطف وشخصية المرسوم، ومن ثم يعكسها في مُبالغات وتحويرات مدروسة لملامحها، لا تضحي بالشبه الكبير لها، وإنما تؤكدها بحيث لا يجد المتلقي (أي متلق) أدنى صعوبة، في التعرف إلى هذه الشخصية، وإلى خصالها الجميلة والعاطلة، في آنٍ معاً. بمعنى آخر: حسن لا يقدم في أعماله وجهاً مجانياً جامداً، يُثير الابتسام أو الضحك، شديد الشبه بصاحبه، إنما يحاول أن يؤكد من خلال المعالجة المتقنة لملامحه وعلاماته الفارقة والرموز اللصيقة به (سيجارة، غليون، نظارات، قلم، ريشة، آلة موسيقية، عكازة، لباس) موقفاً معيناً منه، وتقديمه على حقيقته المتوارية في العميق من دواخله، خلف ألف وجه ووجه مخاتل.‏

والحقيقة، وعلى الرغم من خروج الفنان إدلبي عن موضوع أعماله الأساس (الوجه) الذي رافقه منذ مشروع تخرجه في قسم الاتصالات البصرية (الإعلان) بكلية الفنون الجميلة بدمشق العام 1989، وتناول فيه وجوه أساتذته وزملائه وبعض العاملين في الكلية، وحتى عمله في مجلة (النقاد) التي أفرد له صاحبها (رياض نجيب الريس) غلافها وصفحاتها الداخلية، ليخوض فوقها مغامرة جديدة مع فن الكاريكاتير السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وشجعه على المضي في هذا التوجه إلى أن تحوّل إلى رسام كاريكاتير بالمعنى الشامل لهذه الكلمة، لكن المتابع لتجربة حسن الجديدة التي قدمها لأول مرة في مجلة (النقاد) ثم في جريدة (البيان) الصادرة في دبي والتي انضم إلى أسرتها منذ بضعة أشهر، كرسام كاريكاتير يومي فيها، سرعان ما يكتشف أن شخصية المنقب البارع في تضاريس الوجوه، ورسامها البارع، لا تزال تسكنه، وتبرز، كقيمة أساسية ومحوريّة في أعماله،‏

إذ لا زال الوجه أهم وأبرز عناصرها التشكيليّة والتعبيريّة، والرافعة الرئيسيّة لقيمها الجماليّة والدلاليّة والفنيّة والتقانيّة، ما يؤكد أن حسن إدلبي الذي انكب على معالجة هذه المفردة التشكيليّة الهامة (الوجه) منذ نحو عشرين عاماً، باتت تتلبسه كظله، وتغادر معه إلى أي حقل فني جديد يخوض غماره، مشكلةً عماده وأساسه ومحوره!!. لقد برع حسن ولا زال، في التقاط الشبه الشديد بين لوحاته الوجهية الكاريكاتيرية ومن تمثلهم من الفنانين والأدباء والسياسيين، ثم يقوم بمزج هذا الشبه بحس ساخر، ينفذ من خلاله بعيداً، متجاوزاً الظاهر والسطحي والخارجي من الملامح، إلى الداخل المتواري، راسماً بدقة شديدة، الشخصية الحقيقية للوجه: طيبة كانت، أم مكسورة، أم شريرة، أم مغرورة، أم مدعيّة، مليئة أو فارغة، سطحيّة أو عميقة، لئيمة أو محبة، صادقة أو كاذبة.‏

طقوس إنجاز لوحة حسن المتميزة هذه، تبدأ بتجميعه لأكبر قدر ممكن من الصور الضوئيّة للشخصية المرسومة، سواء من الأرشيف (في حال كانت متوفاة أو بعيدة المنال) أو من خلال قيامه هو بتصويرها، ومن أكثر من جهة ووضعيّة وحالة. بعدها يلجأ إلى مختبره ليبدأ رحلة تأمل هادئة، وعميقة، وطويلة، في تضاريس هذه الشخصية، منتخباً الأكثر تعبيراً منها، وواضعاً اليد، على أبرز مفارقاتها والرموز اللصيقة بها، ثم يعكف على معالجتها اختزالاً أو تضخيماً، تحويراً أو تبسيطاً، مبالغةً أو التزاماً مطلقاً بواقعيتها، وصولاً إلى الإنجاز النهائي الذي قد لا يقف عنده، أو يركن إليه بشكل نهائي، وإنما يعاود الاشتغال عليه، بعد أيام، أو شهور،‏

أو ربما سنوات، بدليل قيامه بإنجاز عدة لوحات للشخصية الواحدة، تناولها فيها، من أكثر من زاوية، ومع أكثر من رمز أو إشارة، تسعفه بالتدليل على عمل ومهنة المرسوم (قلم، ريشة، كاميرا، آلة موسيقية، كتاب، جريدة). وللتفريق بين المنسحبين من الحياة، والباقين فيها، يلجأ حسن إلى استخدام تقنية الأبيض والأسود في معالجة وجوه الراحلين، وإلى الألوان في معالجة وجوه الذين لا يزالون على قيد الحياة، غير أن الصيغة الفنيّة، تبقى واحدة في التقانتين، وبنفس السوية: رسماً، وتلويناً، وتحويراً، وتعبيراً. وفي التقانتين، يُهتدى بسهولة إلى شخصية حسن إدلبي: الفنان المنقب ببراعة، في جغرافية الوجه الإنساني، عن التضاريس المناسبة، للمبالغة والتحوير، ثم ينتخب الأمثل منها، لاستخدامها في إماطة اللثام عن الوجه الحقيقي للشخصية المرسومة، المتواري خلف أكثر من قناع. بدأ حسن إدلبي رحلة الحياة من حلب عام 1963 برفقة أخيه التوأم (حسين) الذي يشبهه إلى حد التطابق، لكنه أخذ منحىً آخر غير الفن، ثم أغرته رفقته الدائمة لتوأمه حسن، بمحاولة خوض غمار آفاق الفن الواسعة، وحتى تاريخه، لم يصلنا شيء من خلال هذه المحاولة.‏

دخل حسن كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق منتصف ثمانينات القرن الماضي، وغادر محترفاتها أواخرها. درس الاتصالات البصريّة (الإعلان) لكنه توجه منذ مشروع تخرجه إلى ضرب من ضروب فن الكاريكاتير، يشتغل عليه عدد قليل من الفنانين العرب هو (فن الوجه) المعالج بنوع من الحس الكاريكاتيري الباسم المتكئ على رموز ودلالات تذهب مباشرةً إلى الشخصية المرسومة، لتعكسها عبر هذه الملامح والرموز، مقرونة بموقف الفنان منها، وهو في الغالب، موقف ودود، محب، وساخر. بدأ الفنان إدلبي رحلته مع هذا الفن، بوجوه زملائه وأساتذته، إضافة إلى وجهه. قدم نتاج انطلاقته في معرضه الشخصي الأول بصالة المتحف الوطني بمسقط رأسه عام 1989. وفي العام 1990 أقام معرضه الثاني بصالة (إيبلا) بدمشق، والمعرض الثالث في الجامعة الأمريكية ببيروت عام 1991، استقر بعدها بشكل دائم في هذه المدينة، حيث جذبته الصحافة إليها، وهي المجال والحاضن الطبيعي للفن الذي يشتغل عليه. في بداية استقراره في بيروت، عمل حسن في مجلة (فن) ثم في مجلة (الكفاح العربي) كما رسم لجريدة (السفير) ومجلة (الاقتصاد والأعمال) ثم استقر في مجلة (النقاد) التي شكّلت الحاضن الأهم والأبرز،‏

لتوسع ونضج وتبلور وانتشار، تجربته الفنية. بعد توقف (النقاد) نشر رسومه في عدة مجلات خليجية منها (المرأة اليوم) و(شباب اليوم) وغيرهما، ومؤخراً انتقل للعمل في جريدة (البيان) الصادرة في دبي. تتالت بعد ذلك معارضه لتشمل، إلى جانب حلب ودمشق وبيروت، باريس وتونس والقاهرة، وأبو ظبي، ودبي التي تشهد حالياً معرضه الأخير. موهبة حسن إدلبي وبراعته في استنهاض حقيقة الشخصية المرسومة ورميها في ملامح الوجه وتضاريسه. وخبرته التشكيلية والتقانيّة المتراكمة يوماً بعد يوم، بفعل المواظبة على الإنتاج وتقديم هذا الإنتاج للناس، بأكثر من وسيلة، تتجلى بوضوح وجلاء، في عملية التقاطه الذكي، للملائم من ملامح الوجه وعلاماته الفارقة القابلة للتحوير والمعالجة الفنيّة المعبّرة، من خلال التكبير والمبالغة، أو التصغير والتبسيط، ثم العمل على هذه العناصر والمقومات والمفردات مجتمعة، بهدف الخروج بأفضل حالة تشكيليّة وتعبيريّة للوجه المرسوم، لكن دون التفريط أو التضحية، بالشبه الكبير لصاحب الوجه، وهذه الخصيصة تحديداً، أبرز ما يميز أعمال الفنان حسن إدلبي، إضافة إلى تماهي الابتسامة فيها بالسخرية الناقدة، والتلقائيّة الصادقة بالعمق المعرفي والخبراتي والتقاني. ما يلفت الانتباه أيضاً في أعمال هذا الفنان، تماهي شخصية الراسم بالمرسوم، فهو يرمي حقيقة شخصية المرسوم ممزوجة ومتداخلة، بموقفه الشخصي منها، وبالحالة التي تتلبسه أثناء إنجازه للعمل، وهذه خصيصة أخرى تُضاف إلى مزايا فنه.‏

 

Air Jordan V Low Supreme

معرض الصور