"حنظلة" من جديد.. بعد 20 عاماً

قيم هذا الموضوع: 
لا يوجد تقييمات
المصدر: 
جريدة المستقبل - لبنان
الكاتب: 
رولا عبد الله
يعتذر"حنظلة" في الذكرى العشرين لاغتيال والده "الروحي" ناجي العلي عن عدم تمكنه من استقبال "المعزين" لأسباب أمنية تبدأ إجراءاتها المشددة من لندن حيث المدفن المؤقت للرسام، مروراً بلبنان وفلسطين المشغولين بأمنهما الذاتي... وليس آخراً الخوف أن يلقى رصاصة كاتم للصوت تسكته الى الأبد.
في دفاتر حنظلة كلام كثير في السياسة والقضية والوطن المركون على هامش النكبة. بجعبته مواقف بقيت مؤجلة منذ تاريخ إقصائه على هامش الصورة: يدان صغيرتان معقوفتان الى الخلف، بلا ملامح يدير ظهره خوفاً أو مكابرة أو.... حدث ذلك بعد العام "73" مباشرة. كانت الأحوال موجعة حد الإهانة. وكان لا أحد يرضى بمزيد من تعرية الحقائق. ثم خيّم الصمت...
حكاية حنظلة أنه كان طفلاً عادياً يتمتع بقدرات اللعب والصراخ والرشق بالحجارة والرقص في باحة الدار. كان يعيش بين طبرية والناصرة في قرية تحمل اسم"الشجرة". بحوزته هوية وشهادة ميلاد ودفاتر وأقلام تبعثرت جميعها بعد العام 48. تماماً كحال ناجي العلي، غادر مرغماً الى بنت جبيل وبعدها الى مخيم "عين الحلوة". هناك وجد أهله وناسه على الـ"وعد" يتلاقون، يتسامرون، يحلمون بعودة ميمونة. بالنسبة إليه بدت الصورة أكثر تعقيداً. لذلك اختار أن يرسم على جدران المخيم ما بقي عالقاً في ذاكرته عن فلسطين: "أنا أعرف أن الرسم يعزيني لأنه يتيح لي إمكانية تنفيس همي، وإن الآخرين قد يموتون كمداً وقهراً". قال هذا نقلاً عن والده الرسام.
رضخ الصبي الواقف على حاله عند سن العاشرة لوصية والده: أن يبقى الشاهد الصامت. يراقب فحسب بينما يتخبط في دوامة الترحال من فلسطين الى جنوب لبنان، الى بيروت، الى الكويت، الى لندن. كان مثل والده وفيّاً للبلد الذي احتضنه: "أحب لبنان. هذا هو شعوري نحوه. وقد ازداد حبي له بعدما تعرض لما تعرض له. بات الآن بمعنى ما شبيهاً بفلسطين. كان موجوداً، مثل فلسطين وغير موجود في الوقت نفسه. كان مهدداً بوجوده". لكن الفارق بينهما أن ناجي العلي اخترق جدار الصمت بأكثر من أربعين ألف لوحة مصوبا فوهاتها في وجه كل من هدد أرضه. كان ذلك بمثابة نذر قطعه على نفسه: "في الحرب وأنا في الملجأ قلت لزوجتي أنني نذرت نذراً لو بقيت على قيد الحياة: سوف أفضح هذا الواقع العربي بكل مؤسساته وبكل أنظمته على حيطان العالم العربي كله إن لم أجد جريدة. وما زلت عند نذري، عندي رغبة في الاستمرار في الإيفاء بالنذر".
سنوات طويلة مرت على المنوال نفسه: ناجي يرسم، وحنظلة يراقب. كان الأخير يراكم مواقف، بعض عبارات والده يضعها برسم التاريخ: "نحن كنا نحب كل من يستطيع أن يقترب من همومنا الوطنية. ثم بعد ذلك يكتشف أحدهم فجأة أنه لبناني أو فلسطيني أو سوري. أنا كنت أقاوم هذا التشتت لأنني أرى أن هناك مجالاً لشعور إضافي غامر يتمثّل في وحدة أهدافنا جميعاً". وبالنسبة الى فلسطين تحديداً، فإنها بحاجة مآسة إلى: "ملائكة، جند الله، ألف جيفارا، أنبياء تقاتل، قيادات حقيقية واعية تعرف كيف ترد".
يخبّئ حنظلة بين الرسومات الكثير من معاناة الماضي. تراه لا يزال يأخذ في الحسبان تبادل الأدوار بين: غني وفقير، حاكم ومحكوم. يحفظ ذلك عن والده الذي أسرّ له أن الواقع قادر أن يندرج في مثل تلك الثنائيات. "أنا على الأقل أرى ذلك" ذكر ناجي ذات يوم بعد غربة قسرية ثم عودة مباغتة الى المخيم الذي شكّل نقطة ضعفه. يومها بكى لأن المخيم فقد بوصلته: "لما عدت، كان المخيم غابة سلاح، صحيح، ولكنه يفتقد الى الوضوح السياسي. وجدته أصبح قبائل. وجدت الانظمة غزته ودولارات النفط لوثت بعض شبابه. كان هذا المخيم رحماً يتشكل داخله مناضلون حقيقيون، ولكن كانت المحاولات لوقف هذه العملية. وأنا أشير بإصبع الاتهام لأكثر من طرف، صحيح أن هناك تفاوت بين الخيانة والتقصير، ولكني لا أعفي أحداً من المسؤولية. الأنظمة العربية جنت علينا، وكذلك الثورة الفلسطينية نفسها". كان يطير صوابه في كل مرة يحدثونه فيها عن الخطوط الحمراء: "أنا أعرف خطاً أحمر واحداً، أنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقّع وثيقة اعتراف واستسلام لإسرائيل".
حُلْم حنظلة أن يعود طفلاً "متحركاً". يرسم ملامح مغايرة عن تلك التي خطّها ناجي في بطاقة التعريف الخاصة بـ"الصبي": "اسم أبي مش ضروري. أمي اسمها نكبة وأختي الصغيرة فاطمة. حافي لأني ما بعرف نمرة رجلي... ولدت في 5 حزيران 67". يقدم نموذجاً لا يدير ظهره للقارئ. يبقى "بمثابة أيقونة الروح من السقوط كلما حل الشعور بالتكاسل".
"ماذا بعد ذلك؟" سؤال أودعه الوالد في عهدة الابن. سؤال مرفق بالتوضيح الآتي: "سنوات طويلة مرت وأنا أرسم.. شعرت خلالها أنني مررت بكل السجون العربية. برغم ذلك كان لدي استعداد عميق للاستشهاد دفاعاً عن لوحة واحدة.. فكل لوحة أشبه بنقطة ماء تحفر في الأذهان".
في الثاني والعشرين من تموز انطلق كاتم الصوت. اخترقت الرصاصة صدغه الأيمن لتخرج من الأيسر. كانت رسوماته تحت إبطه، كذلك حنظلة. وكانت فلسطين بوصلته في الطريق الى الشهادة: "إللي بدو يكتب عن فلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين لازم يعرف حاله ميت. أنا يا عمي سأبقى أميناً لفاطمة وحنظلة لأنني منهم ولأنهم أهلي.. أهلي كل المواطنين العرب المقهورين".
"ماذا بعد؟". الأمانة تقتضي رد الأمانة. "حنظلة" يطلق نداءا إنسانيا لإعادة جثمان والده الى المنطقة التي أحب، الأرض التي نزف لأجلها حتى الموت.
"حنظلة" يطلق نداء إنسانياً لإعادة تمثال والده الى ساحة مخيم عين الحلوة. سبق للتمثال أن تعرض للإغتيال وبداعي الترميم جرى نقله الى جهة مجهولة.
حنظلة يطلق نداء إنسانياً الى جميع المتخاصمين: تذكروا شهداءكم... يرحمكم الله.
Air Jordan XI 11 Wool

معرض الصور