حوار مع الفنان العائد يوسف عبد لكي: الآن تغيّر فهمي للسياسة.. صرت أرسم التفاحة مستمتعاً

قيم هذا الموضوع: 
Average: 1 (1 vote)
المصدر: 
جريدة المستقبل - لبنان
الكاتب: 
لقمان ديركي

 

التقاه: لقمان ديركي

ولد يوسف عبد لكي عام 1951 في مدينة القامشلي شمال شرق سوريا، ثم حصل على إجازة من كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1976، وبعد ذلك حصل على دبلوم حفر من المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس عام 1986، وأنهى دراساته بالحصول على دكتوراه في الفنون التشكيلية من جامعة باريس الثامنة عام 1989.

أقام يوسف عبد لكي أول معرض فردي له عام 1973 في صالة اللاييك بدمشق، كما أقام المعارض الفردية في القاهرة وتونس وعمَّان وبيروت ودبي والمنامة وباريس وصفاقس وغيرها من مدن العالم، بالإضافة إلى المعارض المشتركة التي أقامها في العالم العربي وأوروبا، وله أعمال مقتناة في المتحف البريطاني ومتحف معهد العالم العربي في باريس ومتحف ديني لوبان في فرنسا ومتحف عمان للفن الحديث ومتحف الكويت.

عمل في مجالات غرافيكية متعددة منذ عام 1968 وصمم عشرات الملصقات وكذلك أغلفة الكتب والشعارات بينها ثلاثون كتاباً للأطفال، كما مارس فنّ الكاريكاتير ونشر رسومه الساخرة في مجالات وصحف عديدة منها: الموقف العربي ـ الأومانيته ـ القدس العربي ـ الشروق ـ الخليج ـ ملحق النهار ـ القرار.

اشترك في تظاهرات الرسوم الساخرة في: كابروفو في بلغاريا وكنوك هيست في بلجيكا وفي كندا وكوبا وفرنسا وإيطاليا وتركيا والبرتغال.

بالأضافة لكل ذلك فقد مارس عبد لكي النقد التشكيلي وله دراسات عديدة منها: تاريخ الكاريكاتير في سوريا 1975 ودراسة عن رسامي الكاريكاتير العرب 1989.

لم يكن من السهل إجراء حوار مع يوسف عبد لكي وسط زحام الأصدقاء القادمين لزيارته. فيوسف، الذي يعود إلى البلد بعد غياب استمر 25 عاماً قضاها في باريس، وجد نفسه محاطاً بالأهل والأصدقاء القدامى وأصدقاء السجن وأصدقاء الفن والأصدقاء اللاحقين الذين يشاهدونه للمرة الأولى بعد أن اكتفوا بصداقته عن بعد.

كانت الخالة أم يوسف الأسطورية تستقبل وتودع الزوار دون أن تنسى للحظة واحدة واجبات الضيافة، بينما كانت الأحاديث تتشابك وتتنوّع والناس في منزل الأم يتعارفون ويتحادثون لتتداخل العوالم بعضها ببعض... عوالم الفن بعوالم السياسة بعوالم الجيران والأقارب عبر قاسم مشترك ظل غائباً لـ25 عاماً ولكن لوحاته كانت حاضرة دائماً والأحاديث التي كانت تدور عنه كانت حاضرة أيضاً.

وعند استقبال الأصدقاء ليوسف في المطار وكانوا أكثر من 200 شخص لم يذرف يوسف دموع الفرح بل كان متماسكاً حتى شاهد نجل صديقه الراحل جميل حتمل القاص السوري. أما في البيت فكان يوسف حتى يومه السادس في الوطن يستقبل الوطن في بيته، وحتى لو أنه لا يميل إلى استخدام كلمة "الوطن" لكثرة ما تم استهلاكها، فإن يوسف عاد إلى الوطن وعاد الوطن إليه. أجريت الحوار معه وسط الأصدقاء والأهل، وكانت ضحكات أصلان عبد الكريم صافية لم تستطع سنوات السجن إطفاءها، بينما كان وجه "عماد شيحة" أقدم سجين سوري (30 عاماً في السجن) ... مشرقاً وبريئاً.

وسط هذا الزحام الصداقي أجريت الحوار وكان أن تواطأ معي الزوار فتحولت أحاديثهم إلى همسات، بل إن الجيران دخلوا إلى البيت على رؤوس أصابعهم، كل هذا لأنهم يحبون... يوسف.

 

لنبدأ بالحديث عن طفولتك في القامشلي.

ـ كان حظي كبيراً أن ولدت في مدينة صغيرة وجميلة اسمها القامشلي. جمالها لم يأتِ من جمال أبنيتها وفخامتها. ولكن لكونها صغيرة كمدينة وكبيرة بالتعايش الاثني فيها. ففي القامشلي أقليات كثيرة تتعايش بسلاسة ومودة، وهي أقليات تنتمي إلى قوميات وأديان طوائف متعددة بالإضافة للانتماءات السياسية المختلفة، تتعايش في ما بينها بتناغم عجيب مما يجعل هذه الحالة حلماً للكثير من المجتمعات المعاصرة التي تعمها النزاعات والحروب. ولا أذكر حادثاً عكّر صفو هذا التناغم وهذا الود سوى حادثة في الستينات عندما حطمت قوات المغاوير الحكومية واحدة من الأندية التابعة لإحدى الطوائف، حيث كان الناس يأتون للعب والتسلية ثم ينصرفون. هذا التدخل السياسي الفج في حياة الناس كان النقطة السوداء الوحيدة في ذاكرتي، وما كانت حالات التنافس لتظهر إلا يوم الأحد عندما كان فريق السريان يلعب ضد فريق الأرمن بكرة القدم، حيث كانت الجماهير تحمل لاعبي فريقها على الأكتاف من الملعب إلى النادي.

وكنت محظوظاً أيضاً بوالدي "عبد الأحد عبدلكي" السياسي الذي كانت السياسة عصب حياته. عمل مع الحزب الشيوعي السوري لفترة من أواخر الأربعينات إلى ما بعد منتصف الخمسينات، وقد جمّده الحزب ثم طرده بسبب روحه الانتقادية ضد سياسة خالد بكداش، وفي عمر سياسي قصير (6 سنوات) سُجن 12 مرة!!

كانت أحوال البلد والناس هي محاور اهتمامه، وكان يسهر مع أصدقائه السياسيين يتناقشون ويتداولون الآراء حتى ساعات متأخرة من الليل. أما عندما كان الأقارب يأتون للسهرة عندنا ويتحدثون عن الشؤون العائلية فكان بكل بساطة... ينام.

ومن الطبيعي أنه عندما يتحدث عن السياسة كان يتحدث عن السجون وتجاربه فيها، ولكنه كان على غير ما جرت عليه العادة حين التحدث عن السجون يتحدث وكأنه يحكي عن رحلة إلى بلاد أخرى، رحلة خالية من المرارة، وكان يقول لنا دائماً كيف أن صاحبة ومديرة "المحل العمومي"... واسمها "غوليزار" أنقذته من الموت. حدث ذلك أوائل الخمسينات عندما اعتقله رجال الأمن وأنهالوا عليه ضرباً على باب مدخل الفرع. كان يصرخ وبينه وبين الشارع باب واحد إلى أن سقط من شدة الضرب كما لو أنه جثة. وفي نحو الساعة الثانية بعد منتصف الليل وصلت "غوليزار" بكامل أبهتها لزيارة رئيس الفرع، وكانت ترتدي ثوباً أبيض وكأنها عروس عندما رأت المنظر المروع... سبعة رجال يضربون رجلاً تسيل منه الدماء وقد أضحى جثة بين أيديهم، فرمت بنفسها عليه وصرخت بهم، "هل أنتم وحوش؟" ثم قررت أن لا تمضي وتترك الرجل إلا إذا حضر رئيس الفرع وأمرهم بالتوقف عن ضربه. ولأن الجميع كانوا من زبائنها فقد لبّوا أمرها وأرسلوا بطلب رئيس الفرع الذي طلب منهم التوقف عن ضرب والدي. بعد هذه الحادثة كان والدي يردد جملة دائمة "العاهرات يحملن من الإنسانية في دواخلهن أكثر من هؤلاء".

هل رأيت غوليزار شخصياً؟

ـ لا... ولكني سمعت عنها الكثير، بل وشاهدت جنازتها التي لن أنساها في حياتي. كانت مثل جنازة هاربة من روايات غابرييل غارسيا ماركيز، إذ من المفترض أنها غير محترمة ولكن الجنازة كانت على العكس من ذلك، محترمة جداً ولائقة، اخترقت الشارع الرئيسي في القامشلي وخلفها حوالي 500 شخص، وعلى طرفي الشارع وفي مقدمة الجنازة كانت هناك عشر شابات يميناً وعشرة يساراً بين الواحدة والأخرى مسافة المترين، وكن يرتدين أزياء فاضحة وبألوان زاهية، كن بنات المحل العمومي تحديداً. وبهدوء غريب مرت الجنازة إلى آخر الشارع دون أن يتعرّض أحد للفتيات بكلمة مهينة. هذه الصورة بقيت في بالي... صورة الفتيات على طرفي الجنازة بملابسهن الملوّنة والفاضحة وكأنهن كن يقدمن تحيتهن الخاصة لربة عملهن.

هل كان والدك ناشطاً؟!

ـ بالطبع، كان كذلك، وكان نشيطاً وغيوراً على العمل السياسي. كما أنه كان يحب العمل السياسي خارج نطاق الطائفية، لذلك لم يكن يعمل إلا في القرى الكردية كي لا تخدش الطائفية نبل رسالته السياسية، وأصبح بعد ذلك عضواً في اللجنة المركزية للحزب. وفي اجتماعات اللجنة اصطدم لأكثر من مرة مع خالد بكداش، كان يريد أن يركز الحزب على الحالة المعيشية للبشر لا على دعم الاتحاد السوفياتي أو دعم حركات التحرر الوطنية البعيدة، ولم يحتمل خالد بكداش هذه الآراء مع أن والدي كان يكن له الكثير من الحب والإجلال، ولكن ذلك كله لم يمنعه من التمسك بحسّه النقدي. بعد عشر سنوات التقى بخالد بكداش فسأله "ما رأيك بالحزب اليوم؟" فقال له: الأخطاء التي نرتكبها اليوم كحزب هي ذاتها التي كنا نرتكبها قبل عشر سنوات، فغصّ خالد بكداش وأنهى المقابلة فوراً.

كانوا يضطهدون الشيوعيين آنذاك، ولكنك لم تنتمِ إلى الحزب الشيوعي السوري على خطى والدك... بل انتميت إلى حزب العمل الشيوعي... ما الذي رأيته مختلفاً في حزب العمل؟!

ـ في الأربعينات والخمسينات عندما كانوا يعتقلون الشيوعيين كانوا يحاكمونهم ويحكمون بسجنهم بالأيام والأسابيع وربما الأشهر، ولكن لم يكن وارداً أبداً أن يحكموا بالسجن على أحد ما بعشر سنوات. سجن والدي 12 مرة لا تساوي في مجموعها أكثر من ثلاث سنوات، أكثر فترة سجن فيها والدي كانت ثمانية أشهر أيام الوحدة. وقتها لم يكن هناك مكان للأحكام التعسفية والسجن لمدة 12 عاماً أو أكثر. كانت الأحزاب تفرح عندما يعتقل أحد أفرادها لأن محاكمته كانت تتحوّل إلى منبر للحزب يقول أعضاؤه فيها آراءهم. وبالعودة إلى سؤالك فإن الأحاديث التي كانت تجري في المنزل فَتَّحت وعيي السياسي مبكراً ودفعتني لعدم الانتساب لأي حزب سياسي إلى أن تأسست رابطة العمل الشيوعي عام 1976 فوجدتها الأقرب إلى تصوّراتي عن العمل السياسي وممارسته. كانت الرابطة حزباً شبابياً يطوّر أدواته باستمرار، وكانت ميزتها عن كل الأحزاب العربية في كونها من دون أمين عام. نعم... كانت حزباً بدون أمين عام.

هل تعرّفت على زوجتك هالة العبدالله في الحزب؟

ـ لا... تعرفت على هالة قبل أن أنتسب إلى الحزب بينما كانت هي منتسبة إليه.

هل انتسبت من أجلها؟!... هل نسَّبَتك هي؟!

ـ لا... أصلاً عندما انتسبت للحزب لم أكن أعرف أنها منتسبة.

هل اعتقلتما ودخلتما السجن في فترة متقاربة؟!

ـ نعم... في فترة متقاربة... في أيار من عام 1978.

ألم تحاولا التخفي؟!

ـ بلى... تخفيت لأيام قليلة... وكنا لا نلتقي أنا وهالة، كما أنني تركت بيت أهلي ومرسمي قبل أسبوع من اعتقالي. داهموا المنزل ولم يعثروا عليّ، ومرة تعرّفت على إحدى الدوريات بينما كنت أمشي في الشارع.

اعتقلوك إذن قبل أن يعتقلوا هالة؟!

ـ لا... اعتقلوا هالة قبلي... علمت بذلك من صديق شاهد اعتقالها في الشارع بالمصادفة... كانت تلك المرة الثانية التي يعتقلون فيها هالة... في المرة الأولى أذكر أنني رسمت لوحة "موطني... موطني" ليلة اعتقالها.

وماذا عنك؟!

ـ لاحقتني الدورية إلى أن وصلت إلى منزل صديقي في حي الشهبندر بدمشق، أمسكوا بي عند مدخل البيت ثم اقتادوني إلى السيارة... وهناك أفلتت من بين أيديهم وهربت فلاحقوني وهم يصرخون "قف... قف". ولكنني لم أتوقف فأطلقوا الرصاص، وكنت لا أسمع صوت الرصاص لأنني كنت مأخوذاً بالركض، بل إنه كان هناك شخص بجانبي يلاحقني ويصوب المسدس ولكنه كان يطلق الرصاص بين أقدامي. قال لي صديقي "لقد ثقب الرصاص كل السيارات التي كانت واقفة في ذلك الشارع". حاولت أن ألتفت ولكن أحدهم أمسكني من قميصي، ثم حاولوا أن يجروني إلى سيارتهم ولكنني كنت أقاوم. أرادوا أن يدخلوني إلى السيارة فتمسكت بالباب، أرادوا بأي شكل أن يدخلوني إلى السيارة دون جدوى حتى ضربني أحدهم بالمسدس على رأسي فأغمي عليّ بعد أن نزفت الدماء وكان الناس قد تجمعوا حولي وبينهم زوجة صديقي التي كانت تصرخ بهم. وبين أخذ ورد استيقظت فوجدت صاحب أحد الأكشاك يعرض عليهم بكل برود أن يتصل بدورية من فرعه على حد قوله فوافقوا. اتصل صاحب الكشك بفرعه فأتت دورية من خمسة أشخاص في سيارة رانج رور، كانوا ضخاماً وغير آبهين بأحد وأمسكوني مثل كيس من البطاطا ورموني في سيارتهم، ولشدة الموقف ركلت زجاج السيارة بقدمي وكسرته ولكنهم انطلقوا وأخذوني إلى فرعهم. فكرت كثيراً بعدها لو أن أحد الناس المجتمعين رفع صوته ضد الدورية لكنت نجوت من الاعتقال... ربما... لكن ذلك لم يحدث... كان حولي خمسون شخصاً قوياً... وخائفاً.

اعتقلوني 21 شهراً... وهالة 13 شهراً.

هل سافرت بعد خروجك من السجن فوراً؟

ـ كانت عندي نية للدراسة في جامعة براونشايغ الألمانية كونها الجامعة الوحيدة التي تدرّس الحفر. لكني لم أستطع الحصول على تأشيرة ألمانية فذهبت إلى باريس وقضيت تسعة أشهر قبلها بين دمشق وبيروت لأعمل وأؤمن ثمن رحلتي، ثم سافرت في 6 نيسان 1981 مع زوجتي.

حتى أي سنة من عمرك عشت في القامشلي؟

ـ حتى الخامسة عشرة، ثم انتقلنا إلى دمشق أنا وأهلي.

هل كنت تعرف أحداً من الرسامين هناك؟

ـ بدأت بالرسم وعمري سبع سنوات وكنت أملك دفتراً للرسم أرسم فيه قطعة كل أسبوع. وقتها لم أشاهد سوى معرضين أحدهما لحزقيال طوروس وقد كان يرسم المناظر الطبيعية، والثاني لحنا الحايك ولكنه لم يعجبني في ذلك المعرض. كان يرسم حيناً بالرصاص وحيناً آخر بالزيت، ولكن كان هناك رسام من طينة أخرى، كان رساماً وخطاطاً اسمه "اسكندر كارات" كان يرسم أغلب أفيشات السينما العملاقة التي كانوا يعلقونها على السيارات التي تدور في الحارات. كان اسكندر كارات البطل القومي للقامشلي بالرسم. وكان سريعاً بإنجاز اللوحة، وعندما كنا نذهب إلى محله كنا نشعر بفخر شديد عندما نمسك له الخيط ليعلّم به الخطوط المتصالبة على الخامة.

هل تعتبره أستاذك الأول؟

ـ في الحقيقة أنا لم أتعلم منه شيئاً، إلا أنه كان المحرّض الأول لخيالاتي الفنية.

عمر حمدي وبشار العيسى يكنّان الكثير من الذكريات لأستاذهما عبد الرحمن دريعي؟!

ـ هما كانا في الحسكة وأنا كنت في القامشلي، لذلك لم أعرف دريعي أبداً. أما عن اسكندر كارات فقد سمعت أنه في السنوات الأخيرة كان يقول عني لسائليه "إنه تلميذي"... وهذا شيء لطيف ويسعدني.

إذن تعرّفت على عمر وبشار في دمشق؟

ـ عمر تعرفت عليه في دمشق عندما أتى ليقيم معرضاً (ربما عام 1971) في المركز الثقافي العربي. شاهدت المعرض وكان بالنسبة لي رساماً مجهولاً فسألت عنه فقالوا لي إنه رسام من الحسكة لم يأتِ أحد إلى معرضه وحالته صعبة، وكان قد لفت نظري أنه يرسم بالسكين، كما أن بناء اللوحة عنده كان متأثراً بأفيشات أفلام السينما. كان يرسم شخصين جالسين على كرسي ورأس معلق فوقهما ولا أحد يعرف من أين أتى. بحثنا عن عمر وإذا به ينزل في فندق بربع ليرة في اليوم. ذهبت مع القاص ابراهيم صموئيل إليه، لم أكن أعرفه بعد، جلسنا تعارفنا وبعد ذلك أخذته ليقيم عندي في المرسم، وكان عمر حمدي وقتها غاية في الرقة ومثالاً في العذوبة... وأصبحنا أصدقاء.

ألم يحرق لوحاته في هذا المعرض؟

ـ بلى... استاء عمر جداً لعدم حضور الجمهور، كان يعتقد أن الناس في الحسكة لا يقيمون وزناً للفنون وأنه عندما يأتي إلى دمشق سيتم الاحتفاء به، لكنه فوجئ بأن أحداً لم يهتم به. عدة أشخاص حضروا المعرض في يوم الافتتاح، بل إن بعضهم احتالوا عليه وأخذوا منه لوحات. ذات يوم قال لنا أنا وابراهيم بأنه سيحرق لوحاته، ولأننا لم نصدقه أجبناه بسخرية: احرقها. وكنا نملك قناعة مطلقة بأنه يمزح. فسألنا أين يمكن إحراق اللوحات؟!

أجابه ابراهيم بأن "زقاق الجن" مكان فسيح يوم الجمعة لأن محلات تصليح السيارات تكون مغلقة وبالتالي فإن المكان يكون مناسباً. وبالفعل جمع لوحاته يوم الجمعة وذهب مع ابراهيم في "طرطيرة". كان ينتظر أن ينهيه ابراهيم عن فعلته ولكن ابرهيم أصر أن يحرجه بعدم تدخله لاعتقاده بأن عمر ما يزال يمزح. أنزلا اللوحات وفجأت رش عمر اللوحات بالكاز من زجاجة أخرجها من جيبه. عندها سأله ابرهيم "ماذا تفعل؟" فقال عمر: سأحرقها، فقال ابراهيم غير مصدّق: أحرقها. أخرج عمر علبة كبريت من جيبه وأحرقها، جن جنون ابراهيم من فعلته وهو الذي كان يظنه غير جاد حتى اللحظة الأخيرة.

وللحقيقة فقد كان الحريق خسارة كبيرة، ومن حسن الحظ أنه كان قد أهداني لوحة وأخرى لابراهيم وثلاث لوحات لآخرين. بعد سنوات سحبوا عمر إلى الجيش وفرزوه إلى سرايا الدفاع، وكانت القوة الأعتى والأكثر تسلحاً في الجيش. هناك جعلوه يعمل في مجلة "الفرسان" ابتداء من عددها الأول إلى أن هرب من الجيش وسافر، وبعد فترة من عمله في المجلة تحوّل الشخص اللطيف إلى شخص آخر متعال ومغرور، وأقام معرضاً عام 1977 أو 1978، وكنت موجوداً في الندوة في نهاية المعرض عندما سأله أحدهم سؤالاً ثم انتقده فأجابه: لا أسمح لك بانتقادي... أنا عمر حمدي فوق مستوى النقد. ثم شبّه شخص لوحاته وحزنها بحزن لوحات لؤي كيالي فنهره بشراسة وقال: الفنان الوحيد الذي أسمح لك أن تشبهني به هو مايكل انج"!! فاستأت كثيراً من تحوّل شخصيته وكذلك من البورتريهات الرسمية التي كان يرسمها فكتبت مقالاً بمنتهى القسوة عنه في جريدة البعث، وعلى أثره لم يعد يتحدث معي، ثم دخلت السجن وبعد خروجي من السجن التقيته مصادفة في الباص فلم يحييني وإنما بادرني فوراً بالسؤال: لماذا كتبت عني ذلك المقال؟!!

أحياناً للكلمة قوة لا يمكن حساب مداها. وهكذا بقيت القطيعة بيننا إلى أن التقيت به في معرض لبشار العيسى في باريس عام 1993، ورأيت عمر في حفل الافتتاح وكان قد فرّ من الجيش قبلها بسنوات بعد أن رفضوا تسريحه ومددوا خدمته العسكرية. هرب إلى لبنان ومن ثم إلى قبرص وحط الرحال في النمسا، وشعرت بعمر وقد بدأ يستعيد رقته التي عرفته بها بداية السبعينات، ثم عدنا والتقينا في القاهرة ثم في باريس مجدداً.

وبشار العيسى؟!

ـ بشار من الرسامين المهمين الذين يملكون إحساساً قوياً باللون وبمتانة الكتلة، غير أن علاقاته صعبة مع أصدقائه.

لماذا يُربط اسميكما معاً؟!

ـ لأننا من نفس الجيل أولاً، ولانخراطنا في العمل السياسي.

الغريب... كيف أنكما عملتما في السياسة بهذا الشكل الصريح والخطر ولم يؤثر ذلك على أعمالكما الفنية؟!!

ـ ما عرف في بلادنا عن الفن السياسي هو أنه فن دعائي ليس إلا، بينما السياسة ممارسة نبيلة في المجتمع، الاحتجاج السياسي على السلطة ومكاسبها جرأة، الفن السياسي بمعناه الحقيقي يمكن أن نراه في لوحة "المرأة الباكية" لبيكاسو، أو في كلب جياكوميتي. كل فن لا يمكنه أن يكون فناً سياسياً إلا إذا كان فناً أولاً، وبالتالي فإن اللوحة ليست خطاباً إنما حقل للاكتشاف. سعيت دائماً لتكون مجالاً لملامسة ما هو شخصي، وإذا مست الآخرين فإنما لهذا السبب تحديداً، هذا ما أعتقد به على الأقل.

تجاوزت نموذج الفنان الحزبي فكيف تجاوزت مشاعرك كونك تعرّضت للملاحقة والاعتقال، هل وظفت هذه المشاعر في الكاريكاتير؟

ـ أكثر الأعمال التي ينطبق عليها هذا التشخيص هي مجموعة "أشخاص". كانت مليئة بالغضب، وكانت عبارة عن تصفية حساب مع السجن وترسباته، وهي لا تخفي نفسها. لم تكن احتجاجاً فقط بل كانت تحتوي على الكثير من الارتجالات وتحتوي على الجانب المتعوي من العمل، والجانب المتعوي تراه في شغلي على درجات اللون الأسود.

ممارستك لفن الكاريكاتير... هل نظفت لوحتك من الإعلان أم أدخلت الاعلان إلى لوحتك؟

ـ كان عندي حرص كبير على ألا يدخل الكاريكاتير على عملي في اللوحة، فأنا أعتبرهما مجالين مختلفين وكل منهما يضر بالآخر ولا ينفعه إلا على مستوى التقنية. أما إلى أي مدى نظّف الكاريكاتير لوحتي؟... أعتقد أنه لم يؤثر كثيراً لأن كل الترسبات وكل السواد الذي في داخلي أفرغته في مجموعة أشخاص، والآن تغيّر مفهومي للسياسة وساعدني على ذلك رسمي لمجموعة "أشخاص". الآن أرسم تفاحة بمتعة كبيرة... أرسمها مخلصاً ومستغرقاً.

هل كنت بحاجة إلى فسحة من الحرية لرسم هذه المجموعة... خاصة وأنك رسمتها في باريس؟!

ـ لم أرسمها في فرنسا لأنني كنت أعاني من أزمة مكان... فرنسا أتاحت لي فسحة حرية ولكن حقيقة ما كان ينقصني كان "الزمن" حتى تنضج المجموعة في مخيلتي، لو بقيت في دمشق كنت سأرسمها في دمشق، هناك لوحات تتبلور وتنضج في المخيّلة في أوقات قصيرة وهناك لوحات أخرى تحتاج إلى وقت طويل، مثلاً لوحة "دولاكروا" عن الثورة الفرنسية رسمها بعد الثورة بخمسة وعشرين عاماً، ما يحتاجه الشاعر والرسام والموسيقي هو الزمن... لا المكان. مجموعة أشخاص قامت بتحرير كبير لعملي من الصلابة الواقعية وبهذا المعنى أصبح عملي في الطبيعة الصامتة أكثر نضجاً، على الأقل في ما يتعلق بمفهوم الفراغ في اللوحة.

أنت أكثر فنان تشكيلي صاحب شعبية وجمهور... ولكن هذا الجمهور قد يقود الفنان إلى مناطق تعجبه، هل حاولت إنهاء هذه المرحلة بمجموعة "أشخاص" لتلتفت إلى مناطق جمالية مختلفة خارج العالم الثالث وحساباته السياسية ومآزقه؟!

ـ لا أعتقد أن هناك شخصاً يستطيع أن يخطط بهذه الطريقة. الأعمال التي يقوم بها الفنان هي أشياء غير محسوبة بالنسبة له، الشحنة الداخلية التي تتمظهر بأشكال مختلفة هي أشبه برجل يرمي نفسه في ماء لا يعرف له قراراً ولا يعرف إن كان سيخرج معافى أو مدمىَ. كما أنني لم أحس في أي لحظة بأنني مطالب بشيء ما، أو أن عليّ إرضاء ذوق معيّن أو أحد ما، أي فنان يشعر بأنه يريد إرضاء أحد ما يتحوّل إلى شخص مهني وصانع، أنا ابن جيل وابن مناخ اجتماعي عندما أتعامل مع نفسي بصدق أصل إلى ما يتجاوزني كشخص، على الأقل هذا ما أوهم نفسي به.

لم تستحضر سوريا في أعمالك طوال فترة غيابك؟!

ـ سافرت إلى فرنسا وبقيت أعمل على علاقة المنظور الشرقي بالمنظور الغربي الذي يعمل وفقه الأوروبيون ويدرّس في جامعات العالم باعتباره المنظور العلمي. عملت على امتزاج المنظور الغربي بالمنظور الشرقي... المنظور الجمالي البحت... لم يكن بالإمكان إدماج هذين المنظورين لو لم أذهب إلى فرنسا، على كل حال في مجموعة "أشخاص" كان المكان حاضراً ولكن ليس بصورته الفولكلورية، ثم أن عصب أعمالي كله قادم من ذاكرتي في فترة السبعينات، وبالتالي حضور بلدي كان طاغياً على كل أعمالي، ربما لن تراه في المجموعة الأخيرة بشكل مباشر لكنه موجود من خلال تحرير الأشكال من الثقل كما نراه في المخيمات.

إلى هنا لم ينتهِ الحوار فقد دخل أصدقاء كثر وجلس بعضهم ينتظر انتهاء الحوار فتوقفنا. سألته عن عودته وعن الأصدقاء الذين استقبلوه في المطار وعن أشياء أخرى ولكن في النهاية وجدت أن حواراً واحداً مع الرسام يوسف عبد لكي غير كافٍ على الاطلاق.

 

nike air max 2019 blue

معرض الصور