حول الكاريكاتير والسلطة

قيم هذا الموضوع: 
لا يوجد تقييمات
المصدر: 
جريدة الاخبار - لبنان
الكاتب: 
نزار عثمان
لم تكن الحادثة التي أثارت حنق جورج الثالث ملك بريطانيا، على فنّان الكاريكاتير الإنكليزي الشهير جيمس غيلراي، بالحادثة العابرة في تاريخ فنّ الكاريكاتير. بل لعلّها ومثيلاتها من ردود الفعل تجاه رسوم الرواد الأوائل لهذا الفنّ من أمثال دومييه وتشارلز فليبون وغيرهم، في تناول رجال السياسة، تمثّل الإرهاصات الأولى للعلاقة الإشكالية التي صبغت علاقة فنّان الكاريكاتير بالسلطة السياسية.
ودون الدخول التفصيلي في الأساليب الهجائية التي يتّبعها هؤلاء الفنّانون ومن عاصرهم ولحقهم، أو الغوص في الأحداث التاريخية التي ترتّبت على رسومهم، نوجّه الاستفهام عن الأسباب التي جعلت من فنّ الكاريكاتير أداة نقدية حادّة وساخرة تخشاها السلطة، وتحسب لها الحساب.
اغتنى فنّ الكاريكاتير ابتداءً من القرن السابع عشر، بأبعاد معيّنة أضيفت إلى المخزون الفنّي الذي يمثّل، وباتت مع مرور الوقت مسلّمات بديهيّة مقوّمة لذاته ومبلورة له، منها على سبيل المثال لا الحصر، إدخال الحركة على مفهوم الصورة، من خلال إسقاط المسرح بثقله على اللوحة كما لدى الفنّان الانكليزي وليام هوغارت، وإعراض الكاريكاتير عن الضوابط التي أملتها الأعراف السائدة، والمثالية الطاغية على الفنّ، الأمر الذي نحا به باتجاه السخرية، ورسّخ له طبيعة المبالغة والهجاء، بحيث أضحى مع مرور الوقت لغة تشكيلية ذات مفاهيم جمالية خاصة، تخاطب ميلاً خفياً للتشويه لدى المتلقّي، ومن ثمّ الإطلالة على القضايا السياسية والاجتماعية، وأداء رسالة معينة تجاهها.
وقد لعبت هذه الأبعاد وغيرها دوراً ضخماً في منح هذا الفنّ قبولاً واسعاً وانتشاراً عريضاً، وخصوصاً بعد تواؤم هذا الفنّ مع الصحافة.
ودون الدخول بتفصيل الأسباب التاريخية الكامنة في إخراج الكاريكاتير كنموذج ثوري مقابل التقليد الكلاسيكي الممتدّ من عصر النهضة، فقد بلغ الكاريكاتير حدّاً من الاحتواء، أضحى فيه تناول الرسمة الكاريكاتيرية بالبحث، إنّما يعني تناول مجموعة أخرى من المعطيات، قوامها رسّام الكاريكاتير، والناشر، والجمهور المتلقّي، والبنية الاجتماعية، والعهد التاريخي، الذي أنتجت من خلالها الرسمة، بحسب ما يذهب ستريتشر في بحثه عن الكاريكاتير السياسي.
اندمج الكاريكاتير منذ ولادته بشكله المتعارف، مع أنساق متنامية تدرّجت ببطء، لتتشكّل كقوّة تنحاز إلى نبض المجتمع. وإن قِيس الأمر من زاوية الإشكالية التي تحكم الفنّ بالسلطة، فالإشكالية تتأكّد، وتتّخذ أكثر من حيّز مع تفصيل الأمر على مقياس الكاريكاتير. فالانبثاق الأوّل لهذا الفنّ، حمل في ذاته بذور تحرّر من تبعية الفنّان لسلطة المال والسياسة، من خلال ابتداع هوغارت للإنتاج الواسع النطاق للفن.
بعد ذلك، وبنتيجة تكرّسه فنّاً له وقعه وامتداده الجماهيري، أضحى رسام الكاريكاتير ذا مهمّة تعبوية نقدية تستمدّ شرعيتها وقوّتها من المخزون الشعبي. وعليه، فقد حملت البدايات الأولى لفنّ الكاريكاتير المعهود، انحيازاً مطلقاً من الفنّان باتجاه الجمهور، وقد كفل له الدور المتنامي لهذا الجمهور في الحياة السياسية والاجتماعية، على أثر الثورة الفرنسية وما لحقها من تغيّرات، ضمانة وفّرت له هامشاً من الحرية، في بثّ رؤاه المحاكية للرأي العام.
بمرور الوقت، ومع توجّه الكاريكاتير بشكل أكبر، لإظهار المبالغة والتشويه بالواقعة المقصودة، أكثر منها في الشخص، ومع إثباته لدور الصورة الحيّة التي خلقها مع غياب وسائل التصوير، في التأثير على الرأي العام، وتوجيهه. نشأ اهتمام خاص من السلطة السياسية بهذا الفنّ، فأخذ بعض رسّامي الكاريكاتير بالتعاون مع صنّاع القرار في ترويج السياسات المطلوبة في توجيه الشعب، وصولاً الى تصويرهم الرموز الوطنية للشعوب، كما جرى مع الفنان الأميركي من أصل ألماني توماس ناست عند خلقه الشكل الأولي للعمّ سام مستوحى ببعض تقاسيمه من شكل ابراهام لنكولن. ثمّ أعيد رسم العمّ سام بشكله المألوف عام 1917، بريشة الفنّان جيمس مونتغمري فلاغ. ثمّ كان الامتحان الأهمّ في الحرب العالمية الأولى، مع نشوء مكاتب الدعاية السياسية، وتغطيتها للصراع في طول البلاد المتحاربة وعرضها، حاملة معها تغيّراً في وظيفة رسام الكاريكاتير. فبعدما كان عمله يصبّ في انتقاد المؤسّسات الحكومية، والجيش، والكنيسة، أصبح عميلاً للبروباغندا.
والواقع أنّ فناني الكاريكاتير قد وقعوا في حيرة كبرى بعد نشوب الحرب، هل يتابعون نقدهم لسياسات الدولة، أم ينخرطون في سلك الدفاع الوطني. تبدّى واضحاً من خلال الاجتماع الذي عقدته هيئة تحرير مجلة Simplicissimus الكاريكاتيرية الاسبوعية الالمانية، ميل عدد من الرسامين، من أبرزهم رئيس التحرير لودفيك ثوما، لإيقاف إصدار الصحيفة، لولا اعتراض الفنّان توماس ثيودور هاين، وتمسّكه مع عدد آخر من الفنّانين، بضرورة التصدّي للمهمة الوطنية التي يقتضيها واقع الحرب. وبهذا تحوّلت مجلة Simplicissimus، من صحيفة المعارضة الاولى للسياسات الالمانية زمن السلم، إلى صحيفة البروباغندا الالمانية الاولى زمن الحرب.
وعلى الرغم من تعرّض لودفيك ثوما للسجن من السلطات الالمانية وقت معارضته لسياساتها، بات واحداً من أهم المنافحين بريشته عن ألمانيا في حربها ضدّ الحلفاء. ولا يُعد ما جرى في ألمانيا آنذاك حالة خاصة، بل لعلّ تلك الاشكالية خيمّت بهاجسها على معظم رسّامي الكاريكاتير، للتبدّل الجذري الذي ألقى بظلاله على أعمالهم.
ودون الاستزادة بالكثير من الشواهد التاريخية، وفي محاولة للخروج بخلاصة عامّة تسلّط الضوء على أبرز ما يقف حائلاً سلطوياً (سياسياً، دينياً، أو عرفياً) أمام فنّان الكاريكاتير وحقّه في حرية التعبير، تتبدّى أمام الباحث، مع انتشار حرية التعبير بأقصى مدى ممكن لها في الغرب، خطوط حمراء عدّة ترزح بثقلها أمام فنان الكاريكاتير الغربي بادئ ذي بدء. ولعلّ أهمّها حظر رسم أيّ لوحة تمسّ بالنقد مسألة المحرقة اليهودية. وقد وصل الأمر في عدد من الدول الاوروبية لمقاضاة بعض الفنانين الذين تجرّأوا على نقد سياسات إسرائيل ومعاقبتهم بعدما صنّفت رسومهم الجهات المختصة بأنها نقد للمحرقة، من مثل الفنان ديف براون في صحيفة الـ«اندبندنت».
ومن ثمّ، فهناك المانع ذو البعد الديني، الذي ينأى عن نشر الرسوم الكاريكاتيرية التي تطال المقدّسات المسيحية بطريقة مخلّة بالأدب. وهناك المعادلة التي رسختها الأحداث التي جرت على اثر الرسوم الكاريكاتيرية الدنماركية الشهيرة، وكان من نتائجها الواضحة منع نشر رسوم الفنان السويدي ألكس فيليكس من أكثر من جهة أوروبية بحجة أنها تمس «مقدّسات المسلمين».
هذا في ما يعني الكاريكاتير الغربي، أمّا الكاريكاتير العربي، فقد مرّ بأدوار عدّة، قد لا يتّسع لها المجال في هذه العجالة، لكن تكفي الإشارة إلى أنّ تلك المساحة من الحرية التي نعم بها الكاريكاتير العربي عند ولادته الاولى، والتي مارس فيها الفنان محمد عبد المنعم رخا مهنته الناقدة بشدة ودون ضوابط ضدّ حزب الوفد ورئيسه مصطفى النحاس باشا في مصر خلال النصف الاول من القرن العشرين، عادت لتتضاءل في الدول العربية بعد نيلها الاستقلال. وهنا قد يجدر التوقّف قليلاً أمام أمور تشكّلت كنقاط إشكالية بالنسبة لفنّ الكاريكاتير العربي.
فقد انعكس تطوّر شكل السلطة السياسية في البلدان العربية، على الكاريكاتير بمزيد من الازدهار من جهة، حيث غزا كل الصحف والمنشورات، لكن في المقابل أُخضع لرقابة صارمة، لم تؤثّر في مضمونه، وفي الرسالة التي يؤدّي فحسب، بل وحتى على شكله.
فمن حيث الدور، أضحى فنّ الكاريكاتير فنّ التنفيس عن المواطن في مقابل الاحتقان الناتج عن غياب الحرية والديموقراطية والنقد الفعلي في المجتمع العربي، وتوجيهه بطريقة لا تتعارض مع الخطوط الحمراء التي وضعتها الدولة. أمّا من حيث الشكل، فقد بات من أولى المحرّمات تصوير الزعيم بشكل ساخر، أو توجيه حراب ريشة النقد لسياساته بطريقة مباشرة، الأمر الذي أفقد اللوحة الكثير من خصائصها النقدية، ودعا بالفنّان للتحايل على الرقابة بشتى الطرق، سعياً لإيصال فكرته بأقلّ تكلفة ممكنة. لكن مع هذا، لم يخل واقع الحال من ضريبة ألقيت على كاهل فنّان الكاريكاتير العربي، تفاوتت بكمها ونوعها. ويحضر إلى الأذهان في هذا السياق على سبيل المثال لا الحصر، ما جرى مع الفنان المصري الرائد بهجت عثمان، حين مُنع في حقبة السادات من ممارسة فنّ الكاريكاتير، ما اضطرّه للتوجّه إلى رسوم الأطفال. لكن بعدها عمد بذكائه الألمعي، ومراعاة لضوابط الرقابة، لابتداع شخصية «بهجتوس» الديكتاتورية، خالعاً عليها ملابس السادات العسكرية بالنياشين والأوسمة، محيطاً لها بكل مظاهر الأبّهة والفخامة التي كان السادات يحيط نفسه بها، لكن بوجه يمثّل وجه الفنان عثمان. وأضحت شخصية «بهجتوس» زعيم جمهورية «بهجاتيا العظمى»، عنواناً لتمرير النقد اللاذع الممهور بريشة الفنان بهجت عثمان.
وفي النهاية، تجدر الإشارة إلى تبلور محرّم آخر بالنسبة إلى فنّ الكاريكاتير العربي عند تماسه بالسلطة الدينية، ويتمثل المحرم المذكور، بتناول المقدّسات التي قد تتّسع دائرتها لتشمل رجال الدين في بعض الأحيان، في أي مقاربة كاريكاتيرية.
ومع انعدام السابقة الجدية في تناول الرموز الدينية المنصوص على قداستها في البلدان العربية في ما يخصّ هذه الناحية، غير أنّ ما جرى في الدنمارك والسويد وغيرهما من البلدان الأخرى من نشر رسوم كاريكاتيرية تمسّ «مقدّسات» المسلمين، تشكّل أكبر مانع «نظري» أمام حرية نقد المقدّسات بالنسبة إلى الفنّان العربي. وهنا لا بدّ من تسجيل ملاحظة أنّ موقف رسامي الكاريكاتير العرب بغالبيتهم العظمى، كان معارضاً لهذه الرسوم، وترجمت معارضتهم هذه، بعنوان «ردّ الإساءة بالإساءة» عبر رسوم كاريكاتيرية عربية تنتقد ما رآه عدد من الفنانين «مقدسات غربية» من قبيل الهولوكوست وغيرها.
ونختم بالتنويه بغياب الكاريكاتير «الإيروتيكي» و«الإيروتيكي ـــــ السياسي» في العالم العربي، إلا بنسبة معينة في لبنان مع بعض الفنّانين.
Nike Jordan Super Fly 4

معرض الصور