فلسطين تحتفل بالذكرى العشرين لرحيل ناجي العلي هل انطفأت نقاط النور التي رآها صاحب حنظلة؟

قيم هذا الموضوع: 
لا يوجد تقييمات
المصدر: 
جريدة المستقبل - لبنان
الكاتب: 
راسم المدهون

 

راسم المدهون

ـ 1 ـ

بعد عشرين عاماً طويلة نتأمّل وقفة "حنظلة" الفتى وقد أدار ظهره للواقع العربي وذهب ببصره في اتجاه مجهول ترك لنا نحن الأحياء على مضض، أن نتخيله، أن نحاول رسمه على طريقتنا وبما يناسب أيامنا الراهنة.

ناجي العلي مزيج من الوعي السياسي الحاد والبالغ الشفافية والموهبة الفنية المسكونة بهم التعبير بلغة البسطاء والعاديين الذين ينظرون في رسمه الكاريكاتوري صباح كل يوم دون أن يجبروا أنفسهم على قراءة بقية الجريدة، وهم الذين اقتنعوا منذ زمن طويل ببلاغة رسومات ناجي بل وقدرتها على تكثيف مآسيهم ومصاعب عيشهم وتحويلها إلى لون محبّب من الكوميديا السوداء تلك التي عالج بها ناجي شؤون قومه وأحب خلال حياته أن يطلق عليها تعبيره الدقيق: شرّ البلية.

ناجي العلي ولد في قرية "الشجرة" في قضاء طبريا في شمال فلسطين عام 1936 أي تماماً في العام ذاته الذي شهد في مدينة عكا ولادة الكاتب الشهيد غسان كنفاني الذي سيكون له في حياة ناجي شأن كبير ابتداء من انتمائهما معاً إلى"حركة القوميين العرب"، وصولاً إلى رعاية غسان موهبة ناجي وإعطائه الفرصة لنشر رسوماته الأولى في مجلة "الحرية" التي كانت تصدر في بيروت ناطقة باسم الحركة والتي كان غسان كنفاني رئيس تحريرها.

كل الذين عرفوا ناجي العلي عن قرب يتذكّرون علاقته المميّزة بالمخيم مكاناً وبشراً. المخيم بالنسبة له كان مساحة في الجغرافيا وأفقاً مفتوحاً على الأحلام الكبرى. هكذا لم يغادر ناجي "عين الحلوة" أبداً بل ظل حلال عمله لسنوات طويلة في بيروت يواظب على الانتقال يومياً من عين الحلوة إلى بيروت وبالعكس ولعل هذه العلاقة التي تشبه عشقاً نادراً كانت وراء لوحته التي لا تنسى والتي رسمها خلال حصار بيروت العام 1982ونشرها في جريدة "السفير": اللوحة تصوّر فتاة بالغة الجمال وقد سطع من الصورة جمال عيني الفتاة وقد سقطت منهما الدموع. تحت الصورة كتب ناجي عبارة: عين الحلوة.

حين سقط "عين الحلوة" واجتازت شوارعه دبابات الاحتلال الإسرائيلي، كان ناجي وولده في عداد الرجال الذين جمعتهم القوات الإسرائيلية في إحدى الساحات. قال لي في ما بعد أن الجنود الإسرائيليين لم يتعرّفوا على شخصيته، بل هم أكثر من ذلك اعتبروه رجلاً مسناً بسبب شعره الأبيض. هكذا أطلقوا سراحه كي يعود مع المسنّين إلى بيته في المخيم. أما هو فلم يفعل. كانت بيروت تعيش الأيام الأولى من حصارها الطويل فتسلّل إليها وفاجأ زملاءه في "السفير" بحضوره بينهم، ولعل لوحته "عين الحلوة" كانت من أوائل رسوماته التي نشرها فور وصوله والتحاقه بعمله في السفير من جديد.

تلك الرسومات اليومية عكست وعياً سياسياً وفنياً عالياً من ناجي العلي ومن الصحافي الكبير طلال سلمان الذي أدرك بوعي عميق أهمية الكاريكاتور في محنة بيروت وفي صمودها على حد سواء، وهو وعي عبّر عنه في جمع عدد كبير من رسومات ناجي ونشرها في كتاب مستقل أعتقد أنه لا يزال مرجعاً ووثيقة بالغة التعبير عن هموم مرحلة سياسية عربية غنية بالأحداث الكبرى، خصوصاً وأن تلك الرسومات امتلكت دوماً قوّة الحياة والاستمرار وقابلية التعبير عن الواقع العربي الذي ازداد مع السنين سوءاً وتردياً. هذا الواقع ظل بحاجة دائمة إلى تلك الوقفة اللامبالية للفتى الفقير "حنظلة" والتي، مع لامبالاتها، تحمل الوعي كله وتحض على الفعل والحركة في وطن عربي يحتاج ابتسامة ولو سوداء في جحيمه اليومي الطافح بالمرارات وقسوة الحياة وشظف العيش وغياب الحريات والاحتلالات الأجنبية التي تقضم الجغرافيا وتزيد أعداد اللاجئين والمشردين.

ـ 2 ـ

يندر رصد علاقة حيوية بين مبدع ما وجمهوره الذي يعبّر فنياً عنه كما هي الحال مع ناجي العلي: في جلسة حوار طويلة معه عبّر ناجي عن تلك العلاقة والتي تربطه بجماهير المخيمات بالذات وقدرتها على تصويب مواقفه وتحديد بوصلة اتجاهه فقال: عام 1974 ذهب أبو عمار إلى الأمم المتحدة لإلقاء خطابه الأول والشهير من منبرها، كنت سياسياً ضد الذهاب للأمم المتحدة وكان هناك في الساحة الفلسطينية من يشاركني الرأي ذاته ومنهم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين". هكذا عبّرت عن موقفي الرافض في رسمتين سلّمتهما للسفير ومضيت في اتجاه مخيم عين الحلوة كعادتي، غير أنني فوجئت عند مداخل المخيم بسكانه كلّهم وقد اجتمعوا يرقصون ويدبكون ويصدحون بالأغاني الوطنية تعبيراً عن فرحتهم بوصول أبو عمار إلى ذلك المنبر الدولي.

يضيف ناجي: لقد انتبهت بسرعة إلى أن بوصلة المخيم تشير لي في اتجاه آخر معاكس لذلك الذي عبّرت عنه في رسوماتي. هكذا قفلت راجعاً في اتجاه بيروت. وصلت إلى مبنى "السفير" واتجهت إلى مكتبي لأفاجئ رئيس التحرير من جديد برسومات مختلفة تماماً عن تلك الرسومات الأولى والتي فهمت منه أيضاً أنها لم تكن مناسبة أبداً.

تلك العلاقة بين ناجي العلي والمخيم ظلّت حاضرة دوماً في حياته الشخصية والفنية على حد سواء، وهو من خلالها تمكن من التعبير ببلاغة عالية عن هموم الإنسان العربي وقضاياه الكبرى، تماماً كما عن المصاعب اليومية "الصغيرة" والتي رآها ناجي باستمرار جزءاً من تلك المصائب العامة. في أسبوع للثقافة الفلسطينية نظّمته لنا "دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية" في مدينتي تونس العاصمة وصفاقس قبل حصار بيروت بشهور قليلة أتذكّر أن زوار معرض ناجي قد توقفوا طويلاً، ومنهم وزير الثقافة التونسية البشير بن سلامة، أمام لوحة لمرآة نرى في عمقها صورة مواطن عربي ينظر إلى ملامحه في الصباح فيكتشف أنه معتقل خلف القضبان. في دعوة الوزير بن سلامة لنا في المساء أتذكّر أنه وجّه سؤالاً لناجي عن تلك اللوحة وأتذكر إلى اليوم تلك الإجابة البليغة لناجي الذي قال: في الحقيقة لقد اختصرت العالم في المرآة التي نقف أمامها كل صباح وذلك الاختصار تم لضرورات فنية، أما في الواقع فإنني أحس أن القضبان ذاتها تمشي معي كيفما تنقلت في الشوارع والطرقات وتذهب معي إلى سرير النوم.

كنت خلال حديث ناجي العلي مع الوزير التونسي أجرّب أنا والشاعر أحمد دحبور أن نرسم "حنظلة". حين قدمنا رسمينا إلى ناجي قال بابتسامة عريضة: أظن أنكما سوف تصبحان رسامين بارعين بعد قرن من الزمان.

رسومات ناجي العلي واكبت الأحداث ولكنها مع ذلك لم تأخذ منها ما هو عابر أو، حسب تعبيره، "سريع الذوبان"، بل هي ذهبت نحو المعاني العميقة لما يجعل الحياة العربية محكومة بالخيبات والهزائم دون أن ينسى أن يشير إلى بؤر الضوء القليلة والنبيلة للبسطاء من المقاومين للقهر والاحتلال وظلم ذوي القربى.

ـ 3 ـ

كنا في نيقوسيا حين جاء نبأ اغتياله. أتذكّر أن آراء مختلفة بل متعاكسة قيلت في تلك الجلسة الطويلة في مقر "اتحاد الكتاب الفلسطينيين" في حي "آيوس بافلوس" وبعضها كان يذهب في اتجاه اتهام القيادة الفلسطينية بالاغتيال بسبب رسومات انتقاديه حادة نشرها ناجي في الأيام التي سبقت الحادثة. لا أزال إلى اليوم أتذكّر أنني كنت من الذين لم يقتنعوا بهذا الاتهام أبداً، أولاً بسبب غياب تقاليد الاغتيال ومنطق العقاب من الساحة الفلسطينية وأيضاً بسبب محبة الجميع لناجي العلي بمن فيهم الرئيس الراحل ياسر عرفات والذي اعتاد مشاهدة رسومات ناجي عنه من دون غضب.

كنت قبل أيام قليلة من الحادثة وفي احتدام النقاشات حول رسومات ناجي الأخيرة قد قلت للمتناقشين: إن أي اعتداء على ناجي العلي سوف تلصقه جهات كثيرة بياسر عرفات.

سنوات طويلة مضت بعد ذلك. صدّق من صدّق ورفض التصديق من شاء الرفض، ومع ذلك تبين أن الرجلين الذين اعتقلتهما السلطات الأمنية البريطانية بتهمة اغتيال ناجي العلي وأودعتهما أحد سجونها في انتظار تقديمهما للمحاكمة قد ظهرا حرين طليقين في شوارع تل أبيب.

اليوم تبدأ في فلسطين الاحتفالات بمرور عشرين سنة على اغتياله. الجليل الذي ينبض بالمحبة ويشع بالإبداع ينظّم أهله سلسلة طويلة من الفعاليات الفنية والثقافية التي سوف تتوّج بحفل إحياء الذكرى في قرية ناجي العلي "الشجرة" هناك قرب طبريا حيث عاش سنواته الأولى قبل أن تجبره دولة الاحتلال على المغادرة مع أهله إلى "بنت جبيل" أولاً و"عين الحلوة" بعد ذلك.

ناجي العلي الفنان الذي أحب الحياة أحب العمل في قطاف الحمضيات في مزارع صور الجنوبية مرة وفي ورشات الحدادة مرة أخرى وفي الصحافة السياسية دوماً.

كلما رأيته كنا نتذكّر معاً أحد المتسلّقين على عذابات الفلسطينيين. كان ناجي يبتسم ويقول في ثقة: ذلك التعس سيكون موضوع أهم كاريكاتور في حياتي. حين أنشره اعرف أنني قد اعتزلت

 

NikeLab ACG.07.KMTR

معرض الصور