لا يمكن للكاريكاتير أن يتطوّر إلا بتوسيع هامش حرية التعبير والإبداع

قيم هذا الموضوع: 
لا يوجد تقييمات
المصدر: 
جريدة القدس العربي - لندن
الكاتب: 
حاوره: ابراهيم الحَيْسن

 

بوهالي حميد المزداد عام 1945 ، واحد من أبرز رسامي الكاريكاتير بالمغرب وأحد رواده إلى جانب العربي بلقاضي ومحمد الفيلالي وابراهيم لمهادي والعربي الصبّان..وآخرين. ارتبط اسمه بالتقشاب البَصَري (التفكه الأيقوني) من خلال تأسيس صحف ومطبوعات ساخرة بالعامية المغربية (الدارجة)، وذلك منذ سبعينيات القرن الماضي.

ببيته الكائن بمدينة الصويرة (موغادور) الواقعة على الشاطئ الغربي، جالست الرسام بوهالي حميد في جو حميمي نادر وأجريت معه اللقاء التالي:

مسار حافل بالكاريكاتير

تعود بدايتي الفنية في مجال الرسم الكاريكاتيري إلى السبعينات، حيث كنت أرسم لسنوات بجريدة 'أخبار الدنيا' وبجريدة 'الكواليس' التي كان يديرها مصطفى العلوي، قبل أن أؤسس في مطلع الثمانينات جريدتي 'أخبار السوق' و'التقشاب' اللتين تعرضتا للمنع عام 1982 بقرار من وزير الداخلية المغربي آنذاك، الأمر الذي دفعني إلى البحث عن وسائط اتصالية أخرى لنشر رسومات كاريكاتورية فأبدعت كتيبات من القصص والسلاسل المصورة، منها على سبيل المثال: الشاوش بوشناق في كوكب بني كلبون، بيرمي لحمير (جواز سفر الحمير)، قوم اهبش إلى جانب بطاقات بريدية ساخرة وأخرى ضاحكة ذات مدلول اجتماعي وهي كثيرة. وإلى جانب ذلك أرسم لوحات صباغية وأترأس جمعية 'التلال للفنون التشكيلية' بمسقط رأسي.

لم تكن البداية سهلة بالنسبة لي في الواقع، إذ أن إصدار جريدة متخصصة في الكاريكاتير كـ'التقشاب' مثلا، كانت تحكمه جملة أهداف لا يمكن أن نفصل فيها الفني عن السياسي والاجتماعي. مع العلم بأن الحافز الأولي لدي كان مرتبطا بممارسة فن وَجَدَ هوى كبيرا في نفسي، إلى أن تحوّل بالتدريج إلى ما يشبه المهنة، خاصة مع الإقبال الذي عرفته الجريدة، حيث استقبلنا باهتمام منقطع النظير.

أهدافي كانت ترتبط من جهة بالرغبة في تطوير فن الكاريكاتير بالمغرب، من خلال خلق مناخ فني يسمح بإفراز طاقات جديدة قادرة على الدفع بفن الكاريكاتير إلى الأمام، ومن جهة أخرى كانت تتملكني الرغبة في المشاركة في النضال المتعلق بالحريات العامة، وعلى رأسها حرية التعبير عن الأفكار والمواقف. وما نعيشه اليوم بالمغرب على هذا المستوى، مقارنة بأقطار عربية أخرى، هو حصيلة نضالات طويلة ومستمرة في هذا الجانب. كما أننا كنا نطمح إلى إتاحة فرص الشغل لبعض الرسامين بالجريدة، وكان هذا الأمر شاغلا أساسيا ضمن مرامي الجريدة. وعموما، فقد شكلت 'التقشاب' مدرسة فنية تخرج منها كبار رسامي الكاريكاتير بالمغرب'..ويتابع: في جريدة 'التقشاب' كانت رسوماتي الكاريكاتيرية تنتقد الأحداث السياسية، خلافا لأعمالي المعروضة الآن التي تنتقد الحياة الاجتماعية، مع إضافة شيء أساسي هو إضفاء صبغة تشكيلية على الكاريكاتير، وهذا الأمر متاح للفنان المبدع والخلاّق، إذ يوجد رسامون عالميون وظفوا فن الكاريكاتير والأشرطة المرسومة في خطاب التشكيل، الشيء الذي فتح آفاقا واسعة لصباغة تعكس عدم حدودية الفن التشكيلي.

كنت معجبا بصحيفة (لو كنار أونشيني) الفرنسية الساخرة، لذا بدأت أنفذ رسوما ساخرة على طريقة هذه الصحيفة..وقد تمكنت من تنظيم أول معرض لرسوماتي الكاريكاتورية عام 1963، وذلك بمركز الإرشادات السياحية بالصويرة. وكانت البواكير الفنية الأولى لدي بزغت منذ أن كنت تلميذا بمدرسة أكنسوس بمسقط رأسي، حيث لقيت تشجيعا من طرف التعاونية المدرسية التي كانت تهتم بالتلاميذ الموهوبين بإشراف من أساتذة مغاربة وأجانب. كما أسست نادياً مسرحياً مختصاً في الكراكيز والدمى المتحركة، إضافة إلى مجلات مدرسية متنوعة.

وفي سنة 1964، شاركت في معرض جماعي أقيم بنادي الصويرة إلى جانب محمد الفيلالي وكارديل نيلي والميلودي. فضلا عن ذلك ومنذ أواخر الستينات، شاركت في المؤتمر الثاني للجمعية الوطنية للرسامين المغاربة بالدار البيضاء إذ كنت عضوا في اللجنة المالية إلى جانب العربي بلقاضي وابراهيم لمهادي.

عقب ذلك بعشر سنوات، استقريت بمدينة الدار البيضاء وأنا مثقل ومنشغل بحلم طالما راودني طويلا، هو إنشاء صحيفة ساخرة تستجيب لأذواق وأسئلة المغاربة، هناك التقيت بصحافي يعمل في 'لوبينيون' هو محمد الفيلالي حيث نشأت بيننا علاقة عمل امتدت لسنوات حافلة بالإبداع رغم الإكراهات المادية الكثيرة التي واجهت مشروعنا الإعلامي والإبداعي المشترك. في تلك الفترة أصدر الفيلالي صحيفة 'ساتيريكس' باللغة الفرنسية، وهي أول صحيفة سياسية تعتمد تقنية الأشرطة المرسومة- Bandes dein'es للتواصل مع القراء وكانت ناجحة بامتياز، الأمر الذي دفعني إلى التفكير في إنجاز صحيفة مماثلة باللغة العربية وبالدارجة المغربية.. وحصيلة ذلك، أصدرت جريدة 'أخبار السوق' وكان يشتغل إلى جانبي الصحافي نعيم كمال كرئيس للتحرير وأسندت الإدارة العامة لمحمد الفيلالي وأنيطت مهمة الإدارة الفنية الرسام العربي الصبان.

تجربة الاعتقال والحبس

لأسباب مادية صرفة توقفت جريدة 'أخبار السوق'، لأبدأ تجربة صحافية أخرى، وكانت هذه المرة بإشراف كامل مني وهي صحيفة 'التقشاب' مع بداية الثمانينات، والتقشاب كما هو مكتوب على صفحتها الأولى صحيفة شعبية سياسية (صعبة)، ومثل التجارب السابقة اخترت اللغة الدارجة والقصص المصورة كمفردات تعبيرية رئيسية وحدد سعر الصحيفة في درهم واحد .

عرفت التجربة نجاحا كبيرا وبلغت مبيعاتها آنذاك 50 ألف نسخة. كان القراء يتابعون 'مغامرات الشاوش بوشناق' (الشخصية المحورية في الرسوم)، هذه الشخصية المغربية، كانت تتميز وتظهر بملامح تانتانية- نسبة إلى 'تانتان'- غير أن هذه التجربة ستتوقف في العدد 43 27 آيار (مايو) 1982 بقرار من وزارة الداخلية بعد نشر رسم كاريكاتيري لوزير الداخلية آنذاك إدريس البصري، رفقة وزيرين آخرين يظهران في وضعية من يستغل فقر وجوع المواطن لتحقيق مآربه ومصالحه الخاصة.

وقد تسبب هذا الرسم الساخر في الزج بي داخل السجن لمدة تزيد عن عشرين يوما، إذ تم اعتقالي يوم الجمعة 28 آيار (مايو) 1982، لأوضع رهن الحبس والتحقيق بقيادة مباشرة من الكوميسير محمد ثابت الذي نفذ في حقه (في حق الكوميسير) الإعدام بتهم اغتصاب عشرات النساء والشطط في استعمال السلطة. وكان الرسم - الذي نفذه الراحل محمد عليوات - يظهر صورة لوزير الداخلية الأسبق ادريس البصري يمتطي ظهر مواطن مغربي مغلوب على أمره ويحمل في يده صنارة معلقة بها خبزة 'كوميرة'. وكان إلى جانبه كل من المعطي بوعبيد وأرسلان الجديدي وهما أيضا يركبان على ظهر مواطنين مغاربة مقهورين، في ذلك الوقت كان المغرب يعيش على إيقاع مخلفات إضرابات 1981 التي خلفت مئات الضحايا بمدينة الدار البيضاء.

وبعد أن أطلق سراحي، أخضعت لنظام مراقبة الإقامة حيث أجبرت على الحضور والإمضاء مرة كل يومين لدى السلطات الأمنية بالدار البيضاء وإخبارها بكل تنقل لي خارج مدار العاصمة الاقتصادية ومدة غيابي وتاريخ عودتي.. إلخ. وقد دفعني هذا التقييد الإجباري والقسري إلى كتابة رسالة احتجاج إلى الكاتب العام للنقابة الوطنية للصحافة نشرتها صحيفة 'البلاغ المغربي' في عددها الصادر يوم 22 تشرين الأول (أكتوبر) 1982.

كانت 'التقشاب' أول صحيفة تنشر كاريكاتيرا عن وزير الداخلية القوي آنذاك، كما انتقدت سابقا الوزير الأول المعطي بوعبيد برسم ساخر مع تعليق يقول: 'حكومة المعطي ما عندها ما تعطي' (حكومة المعطي بوعبيد لا تملك ما تقدمه للشعب).

لقد كنت أنتقد مجموعة من رموز السياسة بالمغرب وزعماء الأحزاب، ولاسيما علال الفاسي الزعيم التاريخي لحزب الاستقلال الذي كنت أنعته بـ'لبطايني' لأنه كان يجمع بطاين (جلود) الأكباش.. فهذا الوضع جعلنا مشاغبين في نظر حزب الاستقلال، ذلك أنه كلما نشرنا رسماً كاريكاتورياً يتناول شخصية علال الفاسي بإحدى الصحف الوطنية آنذاك، إلا وارتفعت نسبة المبيعات لتلك الصحف..

معنى الكاريكاتير..

الكاريكاتير سلاح خطير..ومن يمتلك السلاح ينبغي أن يستعمله ضد الفساد والرشوة والقيم المنبوذة والشائعة التي تنخر جسد المجتمع. والكاريكاتور وسيلة تعبيرية وأداة لفضح المسكوت عنه وتعرية الواقع، وإذا جانَبَ الكاريكاتور هذا الدور - يضيف الرسام بوهالي - فلا ينبغي احتسابه كاريكاتورا. إن رؤساء البلدان الغربية المتقدمة وزعماء الأحزاب السياسية هناك يسعدون بنشر رسومات كاريكاتورية تنتقدهم، لأن هذا الفن صار جزءا من وجدانهم الجمالي وثقافتهم اليومية، بخلاف الأمر لدينا، إذ كثيرا ما يقود نشر رسم كاريكاتوري ينتقد سياسة البلاد أو ينتقد أداء مسؤول أو شخصية سامية معينة إلى الاعتقال والحبس ومصادرة الصحف، ولنا أمثلة كثيرة في هذا السياق.

الكاريكاتير متنفس لا محيد عنه، ولا يمكن له أن يزدهر إلا بتوسيع هامش حرية التعبير والإبداع والرفع من مستوى الديمقراطية بالبلد.

ما بعد التقاعد

قبل سنوات أنهيت مشواري التعليمي وتقاعدت عن العمل بعد أن قضيت أعواماً كثيرة وأنا أمارس التدريس كمعلم وكأستاذ لمادة التربية الفنية بمركز تكوين المعلمين بالصويرة..انتهيت من مهنة التدريس لأتفرّغ للإبداع التشكيلي داخل مقر جمعية التلال للفنون التشكيلية. لم أعد أمارس الكاريكاتير كالسابق، لكنني ابتكرت طريقة أخرى للرسم الشعبي تتمثل في إنجاز بطاقات بريدية ملونة تجسد موضوعات هزلية مستوحاة من الحياة اليومية للناس ومن الفكاهة الشعبية المغربية، إضافة إلى إبداع سلاسل مصورة وكتيبات مدعمة برسوم إيضاحية Illustrations - تتضمن مواقف وحكايا مضحكة غالبا ما تجد إقبالا واسعا من قبل السياح الأجانب الذين يتقاطرون كل يوم على مدينة الصويرة، هذا دون الحديث عن إنتاج لوحات تشكيلية تجريدية مفعمة بالرموز والآثار اللونية ذات الطابع الغنائي.

ومن آخر الأنشطة الفنية التي قمت بها المشاركة في معرض للرسوم الكاريكاتيرية نظمته الرابطة الفرنسية المغربية بالمدينة وكان إلى جانبي كل من الرسام المغربي أحمد طايش والرسام الفرنسي جاك دو لوستال. وقد أهديت كل الأعمال الفنية التي شاركت بها في هذا المعرض إلى إحدى المؤسسات الخيرية المحلية.

كلمة أخيرة:

أتمنى أن يزدهر الرسم الكاريكاتيري بالمغرب وبالوطن العربي، وأن يتسلح الرسامون الشباب بالقراءة والتمرّن على تقنيات الرسم والتلوين إلى جانب الإكثار من الاحتكاك بتجارب الغير، فضلا عن التركيز في الرسم على إبراز الأفكار بحس جمالي وتعبيري في آن والانكباب على معالجة مواضيع راهنة تستجيب لحاجيات الناس وتعبّر بصدق عن همومهم ورهاناتهم وتطلعاتهم..

 

Lebron Soldiers XI 11

معرض الصور