مرايا الزمن ... ناجي العلي المقتول مرتين

قيم هذا الموضوع: 
لا يوجد تقييمات
المصدر: 
جريدة الخليج - الإمارات
الكاتب: 
شوقي بزيع
تعرفت الى ناجي العلي في مطالع الثمانينات من القرن الفائت، في أثناء عمله في جريدة “السفير” اللبنانية. كنت يومها أتابع رسومه المميزة والمؤثرة والتي أصبحت علامة فارقة في تاريخ الكاريكاتور العربي. وبقدر ما كان يسكنني شغف دائم للتعرف عن كثب الى ذلك الرجل الشفاف على صلابة وجرأة كنت شديد الخشية من أن تكون شخصيته نقيضة لرسومه ومن أن يكون مزاجه وطباعه بعيدين كل البعد عما تعكس أعماله من صدق وتواضع وانتصار للانسان. واذ بادرت بنوع من المجازفة غير المأمونة الى “اقتحام” مكتبه الصغير والمتواضع في أحد طوابق المبنى الذي تقع فيه الجريدة، فوجئت أشد المفاجأة بذلك القدر من الدماثة واللطف والسريرة النقية لذلك الرجل الهادئ والمملوء بالأسرار. ولم تكن ظروف ناجي الذي لا يكاد ينهي عمله في الجريدة حتى يعود الى منزله المتواضع في مخيم عين الحلوة لتسمح لنا بالكثير من اللقاءات، ومع ذلك فإن تلك اللقاءات على ندرتها كانت كافية لنشوء نوع من المودة والألفة بيننا نحن الإثنين.
لم يكن ناجي ميالاً الى الثرثرة والكلام المطول والإفاضة في الحديث، بل كان يكتفي بتعليقات خاطفة أشبه بالبرقيات أو خلاصات الكلام. كان ينفر كثيراً من التنظير الأيديولوجي والادعاءات المعرفية لكوادر الأحزاب ومثقفي المقاهي، وكان يميل بالمقابل للاختلاط بالبشر البسطاء المنتشرين في زوايا مخيمه الفلسطيني أو في الأحياء الفقيرة من بيروت. ولأنه كان ينتمي الى الهجرة الأولى التي تبعت النكبة، أو ما يعرف بفلسطينيي ،1948 فقد كان مفرطاً في حبه للبنان وأهله وفي تقدير التضحيات الهائلة التي قدمها اللبنانيون على مذبح القضية الفلسطينية، بصرف النظر عن أحزابهم وعقائدهم وطوائفهم المختلفة. ولهذا كان متساهلاً في كل ما يتصل بالاختلاف وتنوع الآراء والمذاهب السياسية بقدر ما كان متفهماً حتى للمواقف السلبية التي اتخذها البعض من ممارسات المنظمات الفلسطينية في لبنان. بل لعل نقده الشديد لهذه الممارسات الخاطئة والشاذة كان السبب الأساسي لمأساته الشخصية ومصيره الفاجع.
كان فن الكاريكاتور عند ناجي العلي مرتبطاً أشد الارتباط بالطفل الذي يقبع في داخله وبتلك الطهارة الشخصية التي لا نعرف مثيلاً لها سوى عند القديسين والصوفيين والفنانين. واذا كانت رسومه قد تحولت الى نوع من الأيقونات الرائعة التي تشع بالصدق والشفافية فما ذلك الا لتخففها من الحذلقة والافتعال وعرض المهارات واقترابها من المعنى الجوهري للحياة ومن الصراع الأبدي بين الجلادين وبين الضحايا، بين الشعوب المستضعفة وناهبي ثرواتها في الداخل والخارج. كان الأبيض والأسود كافيين وحدهما لتجسيد تلك الثنائيات الدائمة التي يحملها العالم في أحشائه، حيث الخير يقابل الشر والملاك يواجه الشيطان والجمال يواجه القبح. ذلك التقابل الحاد بين الأضداد تمثل في رسومه عبر المواجهة المأساوية بين الرجل الفقير والنحيل، ذي الثياب المرقعة حيناً والمرقطة حيناً آخر، وبين ذوي الكروش السمينة المستعدين في كل وقت لخيانة أوطانهم والتواطؤ مع أعدائها من أجل تكديس الثروات وتنمية رؤوس الأموال. وكان حنظلة الطفل بيديه المكبلتين ورأسه الذي يشبه الشمس، والذي يدير ظهره الى الناس، هو الشاهد الحي على الجريمة المتواصلة وهو الضمير والحقيقة والوعد بالمستقبل. ولم تكن المرأة من جهتها غائبة عن المشهد بل كانت تظهر بين حين وآخر على شكل أم أو أخت أو ابنة أو زوجة أو حبيبة، وكانت في جميع الحالات رمزاً للحنان أو الغضب، للدفء أو المقاومة، للحب كما للخصب.
لم يأبه ناجي العلي كثيراً للمفاهيم الجاهزة عن فن الكاريكاتور.
لم يأبه للخطوط والأبعاد أو لمجانبة الحوارات والتعبيرات الكلامية. كان يقيم في بعض الرسوم حواراً معبراً بين أبطاله، وأحياناً يتكفل الرسم وحده بإيصال أدق الرسائل وأكثرها دلالة وبوحاً وجرأة على الافصاح. أحياناً تشف رسومه الى حدود الشعر الخالص والرومنسية العذبة وأحياناً أخرى تسدد ريشتها كالخنجر باتجاه الطغاة والجلادين وتجار الحروب. تلك الرسوم الجريئة التي قادته الى حتفه بدت كأنها المعادل الفني الآخر لشعر المتنبي الذي قاد صاحبه الى المصير إياه.
ثمة أمر آخر يجمع بين المتنبي وناجي العلي رغم تباعد الزمن والتجربة وطريقة التعبير، وهو أن كليهما معاً تعرضا للاغتيال من جديد على يد الارهاب والتطرف والتكفير الظلامي.
Air Jordan 89 Shoes

معرض الصور