موريتانيا: رسام يعزف منفردا

قيم هذا الموضوع: 
لا يوجد تقييمات
المصدر: 
موقع منصات
الكاتب: 
أحمد ولد إسلم

لم يتخرج بون ولد الدف من مدرسة للفنون الجميلة. وهو ليس حتى خريج قسم الإعلام ، بل كان جنديا في قوات الدرك الوطني.

قمعت المؤسسة العسكرية افكاره وإرغمته حتى على التصويت في الانتخابات المختلفة لصالح الحزب الحاكم إبان نظام الرئيس معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع.

وبعد فصله قسرا من سلك الدرك الوطني بسبب آراءه السياسية، استعاض عن حمل البندقية بحمل قلم الرصاص ومجموعة من الأصباغ الملونة ، ليرسم لوحات ناقدة وساخرة عن الظلم الذي يعيشه أبناء البلد، ويصور كل ما هو خارج عن العادة.

مرت سنوات الحكم الطائعي وبون ولد الدف محاصر ومبعد في وطنه، حيث لم تجرَ معه أية مقابلة في أي من وسائل الإعلام الوطنية.

وقد صودرت بسبب رسومه أعداد من جريدة "أشطاري" الساخرة التي تحوي رسوما حادة اللهجة تجاه السلطة القائمة.

وها هو يصدر صحيفة "دنيا الكاريكاتور" التي وئدت في مهدها وذلك بسبب ضيق الأحوال المادية.

لكنه سرعان ما وجد في المعارض الوطنية فرصة لعرض أفكاره ، لكنها ظلت دون المستوى الذي يطمح إليه، وبقيت حبيسة مجهوده الشخصي.

وبدافع  إحساسه المتزايد بالتهميش والاقصاء، سافر إلى فرنسا حيث أقام عدة معارض في مونبلييه ودار الكاريكاتور في اجواييز، حيث نال عدة أوسمة.

ومع الانقلاب على نظام معاوية ولد سيدي أحمد ولد الطايع عام 2005  وجد متنفسا من الحرية من خلال زاوية يومية في صحيفة الشعب الحكومية.

وقد أجريت معه عدة لقاءات تلفزيونية وإذاعية ، قبل أن تشهد تلك الحرية تراجعا ملحوظا مع الحكم الجديد الذي أفرزته الانتخابات الأخيرة.

عندها أصبحت رسوماته عرضة لمقصّ الرقيب حتى انه أجبر في أحيان كثيرة على تغيير ملامح رسمه أو حذف سمات محددة حتى تتناسب مع رؤية الرقيب.

وقد وصل الأمر احياناً عديدة  حد المصادرة والمنع من النشر.

مصدر الإلهام

في منزله المتواضع بحي"عرفات" في الضاحية الجنوبية للعاصمة نواكشوط، يتابع الرسام بون ولد الدف أحداث العالم بتمعن من خلال التلفزيون.

فهو يرى بأن العالم  بأسره مادة دسمة لرسامي الكاريكاتور.

ليس" لشيطان الكاريكاتور" وقت محدد يزوره فيه.

أحياناً يأتيه حين يتابع الأحداث الأليمة التي تعيشها فلسطين والعراق ولبنان ، أو حين يشاهد اجتماعا للحكام العرب، أو خلافا بين اثنين منهم، أو يدير جهاز التحكم إلى القناة الوطنية، أو ينزل إلى أحياء الصفيح التي تحيط بالعاصمة.

وقد يلتقي بهذا الشيطان  حين تجبره ظروف الحياة على العمل كسائق سيارة أجرة ليشتري خبز لأطفاله.

ولكن أكثر زياراته له تكون في المكاتب الحكومية حين يعاين طوابير المواطنين وهم يتدافعون للحصول على خدمات بسيطة.

في جميع الحالات لا يكون هناك موعد مسبق مع الفكرة ، فحين ينظر إلى الورقة البيضاء على منضدته الصغيرة ، ويتناول قلم الرصاص، تتزاحم الأفكار التي كانت مخزنة في عقله الباطن من المشاهد اليومية التي مرت به ، فيحتار من بين تلك الأفكار المزدحمة أنسبها للظرف وأقربها إلى الواقع.

فإذا صوّر الواقع وأحسن تصويره أحاله إلى "الرقيب" الذي يعطي لنفسه الحق في التصرف بالحذف والتعديل، فيفسد الفكرة تارةً ويعكس معناها تارةً أخرى.

وحين لا توافق مزاجه يقرر مصادرتها.

ولأن الفنان بون ولد الدف يرفض أن يخلف موعدا لقرائه الأوفياء، يبدأ في إعداد رسم جديد كبديل للرسم المصادر، ويدون على الفكرة التي "دفنت في مهدها"   تاريخ وأدها ومن كان المشرف عليه، ويحتفظ بها في تابوتها حتى يأتي يوم نشرها.

رسوم مصادرة

لا يعرف الفنان بون ولد الدف عدد رسومه التي تمت مصادرتها منذ انطلاقته، لأن المصادرة كانت أمرا متوقعا وعاديا في حياة الصحفيين والعاملين في ميدان الإعلام عموما، في حقبة الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع.

لكن منذ انتخاب الرئيس الحالي سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، والذي أعقبه تغيير في إدارة مؤسسة الوكالة الموريتانية للانباء الناشرة لصحيفة "الشعب"- التي يعمل بها بون ولد الدف - بدأ يحصي الرسوم المصادرة والمعدلة  من طرف إدارة الجريدة وأضحى يدون على كل رسم صودر له.

من بين الرسوم المصادرة من طرف إدارة جريدة الشعب الحكومية رسم يتحدث عن الخطة الاستعجالية التي أعلنت عنها الحكومة بعد مظاهرات جابت المدن الكبرى تنديدا بالغلاء الفاحش للأسعار في بداية نوفمبر تشرين الثاني من العام الماضي.

وقد تمت مصادرة الرسم يوم 26/11/2007  واحتفظ به الفنان بون منتظرا أن يجد منبرا حرا لنشره.

وقبل أيام قليلة صودر له رسم عن انتظار غزة للقمة العربية ، كما درجت إدارة الجريدة على حذف بعض مكونات الرسم أو إضافة عبارات له بحجة مساسه أو معارضته للسياسة العامة للدولة.

ومن الرسوم المثيرة التي كانت سببا في تغيير اسم وزارة النفط الموريتانية أحد الرسوم التي عرضها الفنان بون ولد الدف في حصة تلفزيونية مباشرة عبر فيه عن فكرة مفادها أن اختصار اسم وزارة الطاقة والنفط (و.ط.ن) دليل على ان النفط المكتشف حديثا في موريتانيا سيمزق الوحدة الوطنية.

وأشار في رسمه إلى حجم الاختلاس الذي تتعرض له الموارد النفطية بإبداله اسم الوزارة بعبارة " وكًّالة طرنيشة النفط" (و,ط,ن) ومعنى العبارة "الذين يأكلون أموال النفط".

وقد أبدل بعد ذلك اسم الوزارة فصار اسمها وزارة الطاقة والمعادن.

 

القاعدة المعكوسة

قاعدة الأشياء في الطبيعة أن تبدأ صغيرة ثم تكبر تدريجيا.

إلا أن الكاريكاتور في موريتانيا سار في المنحنى العكسي.

فقد انطلق كبيرا في السنوات الأربع الأخيرة من القرن الماضي والأولى من القرن الحالي، أيام ازدهار الصحف الساخرة مثل"اشطاري" و" ش إلوح في ش".

لكن الحصار الاقتصادي الذي عانت منه تلك الصحف بسبب خطها المناوئ بطبعه لخط السلطة  القائمة، جعل الكاريكاتور يتراجع إلى أدنى مستوياته، حتى وصل به الحال إلى الغياب كليا عن الصحف المستقلة ، واقتصاره على صحيفة الشعب اليومية الرسمية.

يرى المراقبون سبب تراجع هذا الفن الصحفي - بالإضافة إلى الحصار المادي على الصحف الساخرة-  ضعف الوعي بثقافة الكاريكاتور لدى الجماهير القارئة وغياب العناية الرسمية بهذا الفن، إضافة إلى ضعف توزيع الصحف الموريتانية التي لا يتجاوز توزيع أغلبها العاصمة نواكشوط.

كما أنه لا يوجد معهد أو مدرسة متخصصة في الفنون الجميلة أو الفنون التشكيلية، وهو ما جعل  من رسامي الكاريكاتور مجرد هواة لم يصل أغلبهم إلى مستوى الاحترافية المطلوبة ، ما تسبب بشكل مباشر في التراجع الكبير لفن الكاريكاتور وصل في النهاية إلى الغياب عن صفحات  الجرائد الموريتانية بشكل شبه كامل.

العزف المنفرد

رغم وجود أكثر من خمس عشرة صحيفة يومية في موريتانيا ومثل هذا العدد من الصحف الأسبوعية المنتظمة ، لا توجد زاوية دورية ثابتة للكاريكاتور إلا في صحيفة الشعب الرسمية التي يعمل بها الفنان بون ولد الدف.

وهو ما جعل بون يعزف منفردا في الساحة الإعلامية الموريتانية.

فالرسامون الذين يتقنون فن الكاريكاتور لا يتجاوزون عدد أصابع اليد.

وقد أرغمتهم ظروف الحياة على البحث عن مصدر عيش بديل بعد ما تجافت عنهم الصحف إبان حكم الرئيس الأسبق أحمد الطايع.

كما لم يكتب النجاح بعد لمشروع "دنيا الكاريكاتور" الذي تبناه ولا زال متشبثا به بون ولد الدف.

هذا  جعل من الرسام  الوحيد في موريتانيا الذي عزم على حمل قلم رصاص -أكبر منه- متحديا ظروف الحياة العصيبة في العاصمة نواكشوط ومصرا  أكثر على مواصلة مسيرة الكفاح في درب التعبير عن آلآم البسطاء وآمالهم، جاعلا منهم قاعدته الخلفية التي منها ينطلق.

 

Fino Al 30% -60% Di Sconto! Morden Scarpe Bambini Jordan 11 Nero Bianco N Dall'Impegno 0c8sqg71

معرض الصور