ننطق باسمك فيعرفك الجميع : الذكرى الاولى لوفاة مؤيد نعمة

قيم هذا الموضوع: 
لا يوجد تقييمات
المصدر: 
موقع عراق الغد
الكاتب: 
موسى الخميسي

 

كنت تنشد للحرية، فانا اعتبرك شهيد، وشهيد هذا الوطن الطالع من ظلام الايام الماضية، والذاهب حسب ماقلته لي في لقائنا الاخير ببغداد" نحو مستقبل مبهم الا انه مشرق، غير عابيء بالالام التي تثقل الطريق الذي سرنا فيه". وطن يسكنه الموت ومعه الرعب والخوف والقلق على مصيره. اعرف كم عانيت يا مؤيد في عقود عمرك الخمسة، وانت تدمن الحرية والوطن، في سيرك العاصفي، في سنوات العمى الكلي الذي اصاب البلاد ، طيلة ثلاثين عاما، وها انت الان بعد موتك، شامخ الرأس، تذهب وتترك لنا ابتساماتك الغامضة، متجاوزا كل تلك الالام التي عشتها في جبهات القتال ،في الداخل والخارج، وفي ارضاء صمت الطغاة، فانا اتذكر كلماتك التي كنت تعيدها على سمعي عشرات المرات، في شوارع الوزيرية وجمعية الفنانين العراقيين وعلى ضفاف شارع ابو نؤاس، حين كنت اشتم بحرقة القلب الجبهة اللاوطنية " انتبه فبعض الكلمات تهدر دم قائلها"، وحين كنت ارد عليك بالقول" حين تختلط الكلمة بالدم تصير مجدا" فكنت ايها الكوكب الذي سقط عن مداره بغفلة، ترد بعفويتك الرائعة وضحكتك المكتومة" مندائي صبّي رومانسي حقير ما تصيرلك جاره".

كنا نخاف عجز الكلام، ولكنك علمتني مواجهته بالكاريكاتير، وانت نذرت نفسك لاجل رفعته، واصبح فنك رفيعا وعاليا لا يطاوله رصاص الموت، فكان سلاحا تواجه به الموت والاعداء، فكنت انسانا يحب الحياة، ويفتنه شغف العيش ككل ابناء جيلك، فكنت حتى في جلساتنا المسائية العديدة انا وانت وصديقنا الرائع بسام فرج، في نادي اسالة الماء، وفي كاردينيا على ابي نؤاس، وفي نادي الاعلاميين العراقيين، ديكا لايجد نفسه محشورا في الزوايا المعتمة، بل منتصبا ومنتصرا لنبل الانسان، بجسدك النحيل وصوتك الخفيض.

ربما لايكون لكلامي الان وانا البعيد،مهما كان بليغا،مثل الدم الذي كنت تستنكره، في العديد من مواقفك الحزينة ، التي تضفي عليها روح السخرية المريرة، وكنت تؤكد على عمق ما تحمله من مشاعر انسانية جليلة. في ايامنا الصاخبة العاصفة تلك ، كنت تدفعني للسفر ، وكنت تقول لي بهمس" انك تشم روائح العواصف القادمة قبلنا جميعا فانهزم قبلنا بجلدك". وهل انسى اغنيتك المفضلة" يا شبيبة اتوحدي" وانت تروح وتجيء في رواقات جريدة" طريق الشعب" لاصطياد فكرتك لاجل انجازها لتضعها الجريدة في صفحتها الاخيرة،وكنت تدافع بجرأة عن حرية الفنان، كمن يدافع عن الضوء في عتم البلاد، وكمن يدافع عن بقاء العراق، عن اجسادنا كما ارواحنا، وكنت اتذكرك ولا ازال وانت تشخص سرعة الاخرين وآنيتهم وعاطفتهم، بل الحماس والاندفاع المتسرع فيهم، فكنت متمردا ورافضا، وكنت كالطائر الحر الذي لايبدع بتغريده داخل الاقفاص ولكنه يتناسل في الفضاء الحر، فانا اتذكرك لربما اكثر من غيري في بلاد الاغتراب، اتذكر حين كنت تقول لي باستمرار بان الكاريكاتير لم يولد ليسد حاجة مترفة وزائدة في الصحيفة، انه وجد ليكون حقا كسلاح، ليسخر من الواقع ومن الظواهر السلبية ويعري الاوضاع المقلوبة، واظل اتذكر ذلك الحادث الذي رفض به رئيس تحرير جريدة " طريق الشعب" آنذاك السيد فخري كريم، رسما كاريكاتيريا لي رسمته عن محنة العراقي بالحصول على طبق البيض، فرسمت صورة رجل مسلح وهو يحمل كل انواع السلاح ليدخل الى عمق جمهرة من الناس امام احد الدكاكين لبيع البيض والصورة الثانية تظهره منتصرا ومبتسما وفي فمه سكين،وهو يظفر بطبق بيض لاولاده، وحجة الرفض ان الصورة ستسبب لنا اشكالات مع المؤسسات المعنية، التي كانت تنتظر اية اساءة لها لتنتفض على ضعفنا وخنوعنا، ورجعت الى غرفتنا المشتركة خائبا، فثارت ثائرتك، رافضا التطبيع مع الخنوع، مصرا على ضرورة الدفاع عن حرية الرأي وفضح الحقائق، مؤكدا اما ان نقبل الاختلاف وان نعترف ونتأكد من حقيقة الظواهر التي نعيشها، فالدفاع عن حرية الرأي، هو دفاع ضد هذه الظواهر السلبية، فمددت يدك على الورقة المرسومة، لتضع يديك على كتفي، لنتوجه لمقابلة السيد فخري كريم، قائلا له" دفاعا عن حرية نشر الكاريكاتير، اعلن تضامني مع عملية نشره، فعلينا ان نحمي الاراء السليمة، علينا مقاومة الظواهر الفاسدة" ووافق السيد فخري كريم وهو ينظر لهذا الاصرار المتحدي على نشر الكاريكاتير، وفي اليوم الثاني كان مؤيد ينتظرني في المساء، لاعرج على الجريدة التي كنت متبرعا في جهدي لها لنحتفل بنشر الصورة، لنحتفل بانتصارنا .

كنت ايها الراحل العزيز اشبه بالطير الجارح الذي يلتقط بمنقاره تلك الافكار، بتلقائية، تبدو في كثير من الاحيان وكانها تخرج من مفكر عميق، فاصبحت جنبا الى جنب بسام فرج مؤسسا لمدرسة ذهنية تحترم العقل، وتتعامل مع الحوار الصامت من دون كلام، فكانت تلك الخطوط التي تخاطب بها العقل، هي الباقية، فهي تبني وتهدم، تناضل، وتساند، وتتلون، لتجد لها حسابات وسطية الا انها تظل عنيدة في هجومها، لذلك اعتمدت رموزا اصبحت معروفة لبعضنا، الشخص المتكرش، والانسان النحيل الفقير، المتسلط الارعن، المدير الحقير، البائس المتشرد... الخ. وفضلا عن محورية القضية العراقية، فان شخصياتك كانت من ابناء الشعب العاديين، وهكذا اصبح القاريء يطالع ذاته في رسوماتك الى درجة التماهي بين القاريء والشخصيات المرسومة، وقد اعلنت انحيازك للفقراء، لست محايادا، وانما منحاز للذين يرزحون تحت نير الاكاذيب والتضليلات وصخور القهر والظلام ودحر الحريات الانسانية، ففتحت رسوماتك نيرانها على تضليل الاعلام وتهاون المثقفين، وقمع السلطات، فعشت تحت الضغط والتهديد. لم يدب بك الوهن ولا الشعور بالهزيمة ولا التراجع، فكنت موجودا بدورك الوطني، وكنت ثائرا ومحرضا بطريقتك الخاصة، وكنت متبصرا في فحوى حياتنا، وكنت رائعا حين تعري حياة الاوغاد وتنشر غسيلهم على حبال خطوطك وامام الناس جميعا ، بحرفيتك المهنية العالية وكنت رائعا في مهاجمتك للاستبداد وثاقبا ومتأملا لما نحن عالقون به، وكنت اروع حين كنت تغضب مؤسسات الحكومة ورجالها وانت تصنع من الحقيقة وطنا نقف معها ونؤازرها، ان تكون حقيقة فضاضة واكثر ثقلا من ان تتحملها النفوس المنفصمة والدواخل المرتابة.

في النهاية تموت مبكرا، لنحفل بك ونتذكرك، فيما نحن القلقين على مصير الوطن من الموت، يتربصنا موت عمومي آخر خارج بلادنا، موت يترصدنا من بعدك عند كل مفترق، موت احمق، لايقتضيه عمر كل منا، بل انه مستعجل بمغادرة الحياة، تفرضه اشباح جوع حاجاته، عنوة وقهرا وتغدو احلامنا، في رؤيتك من جديد، غير محققة، ومستحيلة ، في بلد الشمس التي اشتركنا في محبتها، والتي اصبحت موطن الجرائم والانفجارات والتفخيخات الحمقاء والطتئفية المقيتة التي لم نتعرف عليها في زمننا الجميل.

 

Footwear Friday Nike, Jordan & More

معرض الصور