وراء الكلام - ناجي.. وقديمه الجديد

قيم هذا الموضوع: 
Average: 1 (2 votes)
المصدر: 
جريدة الحياة الجديدة - فلسطين
الكاتب: 
احمد دحبول

 

اكاد لا اصدق ان تسعة عشر عاما تفصلنا عن ناجي العلي، فهو لا يزال اقرب الينا من حبل الوريد، يتأمل احوالنا، ويتحفز ليخرج الينا من تحت البلاطة في لندن، ممتشقا ريشته المجربة، مستنفرا حنظلته المحارب الذي ادار ظهره للمشهد طويلا، الا من التفاتة بين فترة وفترة، تكون اشارة خطر الى امر جسيم.

وكم من مرة ستلتفت لتلتفت يا حنظلة!! فالسكين على العنق، والدور تتهاوى، ولا تزال قرية ابيك - صانعك ناجي العلي شاهدة على نكبة تبلغ الثماني والخمسين من العمر. وليس في قرية الشجرة المهدمة الا بئر ماء معطلة، تنزل الى عمقها بدرجات مكسرة، لتقرأ كلمات منقوشة في حجر التاريخ: بنى اهل الشجرة سور هذه البئر، وشربوا من مائها وارتووا، ولحنظلة ان يضيف: انهم على العهد وما بدلوا تبديلا.

وشجرة ناجي العلي تقف على مبعدتين متساويتين من الناصرة شرقا وطبريا غربا، فيا لها من نبتة اصبحت بلدا يشهد على المعجزة الفلسطينية منذ الحديث في المهد حتى تكثير السمك بين ايدي الفقراء، حتى لتكفي اربع سمكات شعبا جائعا.. وهذه الشجرة هي التي نبت على فنن منها ناجي العلي، وحين هاجر به اهله تحت البارود والقصف والعسف، كان في الثانية عشرة من العمر. وسيظل يتكئ على اي جذع او جدار، يحدق الى ما يرى ولا يراه الآخرون ويرسم، فتتحرك بأمر حبره الاسود وريشته الواثقة حياة وحياة وحياة. فهنا حنظلة، الفتى الفقير، وقد وقف حليق الرأس الا من شعيرات نابتة كالشوك، عاقد اليدين وراء ظهره، محتفظا ببنطاله القصير، مصغيا الى فاطمة، امه الجليلية، التي لا تكاد تتكلم ففي صمتها كل كلام الدنيا، واما ابوه فيلبس المرقع ويشتم ويهدر او يلوذ بالصمت عندما يكون الصمت هو البلاغة.. وعلى مبعدة من هذه الاسرة الشجراوية الجليلية الفلسطينية يقف الاغبياء غرباء عن ارض انجبتهم، برقاب غليظة، وسيجار سمين، ودسائس لا تنتهي.. الا ان شخوص ناجي في رسومه لا ينتهون عند هذا العدد، فهناك الساسة العرب، والمستعمرون، والاعداء.. وهناك القضية التي لا تموت ووراءها مطالب.

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر. فنحن في حلكة هذا المشهد، احوج ما نكون الى ريشة ناجي وغضب حنظلته وتعليقات ابي حنظلة. هكذا نفتقد البدر ولا نزعم الفقر.. فلدينا رسامون كبار - ولعل بهاء البخاري وامية جحا من اهم رسامي الكاريكاتير العرب، وهما بيننا في اوج العطاء - لكن ناجي الذي تمر بنا هذا اليوم ذكرى استشهاده التاسعة عشرة، يتميز بما يتميز عن الرسم.. انه منشئ عالم درامي تتجمع رسومه حتى تبدع ملحمة دامية لا تزال تحير الاجيال. وحين كان يعمل في صحيفة السفير اللبنانية او القبس الكويتية، وكان، في القليل النادر، يأخذ اجازة، كانت الصحيفتان تنشران رسوما سابقة له بتعليق دال: ناجي العلي في اجازة قصيرة وهذا بعض قديمه الجديد.. وكان قديمه يواكب الجديد حتى يبدو كأنه تعليق عليه، فقد كان سابقا للحدث باستمرار، حتى انه اليوم، بعد تسعة عشر عاما من استشهاده الأليم، لا يزال يوافينا بالجديد من خلال رسومه التي نستعيدها ومنها نتعلم ولا نرتوي..

ابا خالد.. سلاما لك في ذكراك، من اهل على العهد وشعب لا ينسى.. افلا تجود علينا، لهذه المناسبة، بلفتة من حنظلة؟

 

Air Force 1 Low Upstep BR

معرض الصور