ثمة في الوسط الصحفي من يزعم ، إنه طرق باب صاحبة الجلالة وهو في بطن أمه ، وإذا تواضع قليلا ، فمنذ كان في جناح الخدج ، وثمة من يزعم إنه لم يتأثر بغيره ، ولم يقلد أحداً، ولم يُصب حتى بعدوى الاعجاب ، أما أنا فأقسم برأس الرجاء الصالح ، إنني تربيتُ في حاضنة الكاريكاتير ، وتعلمت منها ، ونقلت عنها إسلوب النقد الساخر الى الصحافة بحدود ما يتقنه تلميذ مبتدىء من أساتذته في مدرسة المتميزين ، وأعترفُ إن أعضاء هذه الحاضنة كانوا من الذكاء والفطنة حداً جعلني أحسدهم علانية ، فوحدهم من يمتلك حاسة إلتقاط إستثنائية لأدق الخبايا لا تقدر عين النسر على ملاحظتها ، ووحدهم من لا يخفى عليه مستور ، فيا لهذا الكائن اللعين ـ رسام الكاريكاتير ـ كيف يقرأ في الظلام ويمشي في النار ويشم رائحة الماء تحت الأرض ؟!
ربما لهذه الاسباب مجتمعة ، لا يحق للحكومة المباهاة ، إنها إبتدعت للنزاهة ( هيأة ) تكشف صفقات القوانين الفاسدة التي إعتاد البرلمان على تمريرها في سلةٍ واحدة ، كما لا يحق للبرلمان التباهي ، إنه يراقب إداء الحكومة ويفضح الفساد السياسي ، فقبل ثمانين سنة ، قامت في العراق أول مؤسسة نزيهة ، لا يرقى اليها الشك ، ولم تَحُم الشبهات حولها يوما ، لمكافحة الفساد بعيداً عن مزايدات الحكومة والبرلمان ، وقليلون هم أولئك الذين كانوا يعرفون إسمها ، أما اليوم فلا أحد يجهل إنها تدعى ( مفوضية الكاريكاتير المستقلة ) التي تحتفي بمطبوعها الثالث ذي النبرة الوحدوية عنواناً و مضموناً ( كاريكاتير عراقي ) ، وليس كاريكاتير مذهب أو طائفة أو قومية أو محاصصة أو وزارات سيادية ، بل هو ( عراقي ) ، وهي صفة إطلاق جامعة من جسر زاخو الى حناء الفاو !! ، هكذا ولدت هذه المفوضية عراقية عفيفة قبل ثمانية عقود ، وما تزال حتى هذه اللحظة سيفا هجر غمده ليطارد فساد الرؤوس والنوايا والجيوب ، على الرغم من إن النصال تكسرت على النصال فوق جسدها الطاهر !
قد أذكر من باب الاشارة العابرة ، إن الكاريكاتير العراقي ليس إبتكاراً محلياً ، فهو مسبوق عربيا وعالميا ، ولكن ميزته إنه لم يولد من رحم التقليد الاعمى ، ولم يستنسخ تجارب الآخرين ، بل ( نزل ) الى الشارع متضوعا بسمرة الشمس العراقية المحرقة ، وعذوبة الفراتين الندية ، وعذابات الناس التي لم تسمع بزائر يدعى (حقوق الانسان) يطرق أبوابها المغلقة في صيف أو شتاء . وبذلك إهتدى ذاتياً إلى صياغة هويته الشخصية ، وكان من آيات هذه الهوية ، إن رموز الفن وعناوينه الكبيرة ، على مدى الثمانين سنة ، كانت كائنات مستقلة ، كل كائن له رؤيته وخطوطه وإسلوبه وبصمته ، أما أجمل تلك الآيات التي تدعو الى الزهو ، فتكمن في قناعتي الشخصية ليس فقط في وقوف رسام الكاريكاتير العراقي مع نخبة زملائه الفنانين عربا وأجانب ضمن خانة واحدة ، بل في تجاوزه الابداعي (أحيانا ) مواطن هذا الفن وعمالقته في عقر دارهم ، ولست ساذجا بالتأكيد الى الحد الذي أمتدح ( الداخلي ) أو أقلل من شأن ( الخارجي) ، فالمقامات محفوظة وقصب السبق معروف .
في حدود معلوماتي وتجربتي وما تستحضره الذاكرة ، وجدتُ من المسموح به (في إطار المعطى العراقي ) ، الحديث عن مدّاحي السلطان أو متعهدي السلطة أو مبيضي وجوه القصور الجمهورية أو مدللي البلاط ، أو اية تسمية لاذعة اخرى ، ينتمي إليها شعراء ورسامون وصحفيون ومفكرون غفت ضمائرهم عند موائد الملوك ، ولكن من غير المسموح به ، بل لا يمكن الاشارة ولو من طرف خفي ، إلى ( رجل ) الكاريكاتير على هذا النحو أبداً ، ليس فقط لأن ضميره دائم اليقظة ، ولا يحسن غض الطرف عن الاعوج ، بل قبل ذلك لأنه أشبه بنبي يعيش إلى آخر يوم في حياته ، متحفز الحواس لأيصال رسالة ، ومن غير المقبول أن نقول (هناك فن من دون رسالة )، ولكن طبيعة هذا الفن من ناحية ، وقدر الكاريكاتيريين من ناحية أخرى ، إن رسالته أحادية لا تحتمل الوجهين و لاالرياء ، حتى لو أراد ذلك أو دفعته آفة الحاجة ، ولهذا ، بخلاف أي إبداع آخر ، حافظ الكاريكاتير على موطيء قدمه الثابت في أعتى درجات المد الدكتاتوري ، وفي أعتى درجات الانفلات الديمقراطي ، فهل أجبتُ ضمناً عن سؤال لم يطرح حول السبب الذي جعل رسام الكاريكاتير يعاني من سوء التغذية وفقر الدم في ظل الديكتاتورية والديمقراطية على حد سواء ؟! إنه مخلوق من طينة لم تُجبَل على التعاطي مع مفهوم ( النظام ) ، كونه .. لسوء الحظ أو حُسنه ، غير قادر على التنفس بعيدا عن ( الناس) ، حتى بات جزءاً منها ومحسوبا عليها ، وكان عليه أن يدفع الثمن الذي دفعه أصحاب الرسالات على مر التاريخ ، وقد دفعه راضيا وليس صاغراً ، مكتفيا بتلك الابتسامة التي يرسمها على تجاعيد العباد وكأنها دمعات أرملة ! هذا هو الكاريكاتير العراقي ، صرخة (سياسية ) بالمدلول الأشمل لمفردة السياسة ، إلا إنها صرخة نقدية عنيفة ، قد يطلقها علنية عالية على رؤوس الاشهاد ، وقد يمررها سرا أو حيلةً أو إحتيالا ، وهو مطمئن الى فطنة المتلقي وذكائه !
يجري الحديث أحيانا بحسن نية أو إستخفاف عن (فضل) الصحافة على ولادة فن الكاريكاتير ونموه بين أحضانها ، وقد يتمادى البعض ، ويرى إن هذا الفن لا وجود له إلا بوجود الصحافة ، وهذا حق يراد به باطل وسوء ظن، فثمة تجاهل لأمرين رئيسين ، أولهما :إن هذا الفن لن يعدم وسيلة لأثبات الحضور بعيداً عن المطبوعات ، وكان بمقدوره إيجاد طريقه المستقلة بالطريقة ذاتها التي عبّرت فيها الفنون التشكيلية عن حضورها، وفي مقدمة ذلك المعارض التقليدية ، وليس أكثر دلالة على هذه الحقيقة من الحضور الجماهيري الواسع الذي حظيت به معارض الكاريكاتير منذ إرتادت هذا المضمار قبل عدة عقود ، وهذا لا يعني بالتأكيد إن الكاريكاتير لم يستثمر صدر الصحافة الرحب ، كونه بلا خلاف أرضية خصبة سرّعت في شيوع هذا الفن وتقريبه من الذائقة الشعبية العامة ، وأي ضير ـ ولا أقول عيباً ـ في ذلك ، خاصة (إنه والصحافة ) يلتقيان معا عند قضية مشتركة هي (الناس ) ، بغض النظر عن أساليب وأهداف كل منهما ،وهذا يقودنا الى الأمر الثاني ، وهو إن الصحافة إستثمرت بالمقابل عطاء الكاريكاتير وغناه وحضوره الجماهيري ، إن لم نقل على لغة التجار في (رواجها وتسويقها )، فعلى الأقل في قدرته على التناغم مع (بعض )توجهاتها ، ولا يمكن التوهم إن ما جرى على الساحة الاعلامية ، كان إكراما لسواد عيون الكاريكاتير ، عندما بدأ يقفز شيئاً فشيئاً من صفحاتها الداخلية إلى صفحاتها الأخيرة ( وهي صفحات القراء المفضلة ) ، ثم إلى صدر صفحاتها الأولى ، وكأنه البديل الأغنى تعبيراً عن (الافتتاحية )،التي تعد في أدبيات الأعلام الأكاديمية ، مركز الثقل و واسطة العقد كما يقول إبن الرومي ، ذلك لأن هذا الفن يمتلك في وقت واحد ، طاقة إستثنائية خاصة لأيصال أعظم الأفكار وأخطرها ، إلى جانب ما يمتلكه من عناصر التشويق البصري والذهني والنفسي بأقل الخطوط .. والكلمات ، وهو ما لا يقدر الحرف المطبوع على الأتيان به ، مهما أوتي صاحبه من قدرة الأيجاز ، وجزالة اللفظ وسحر البلاغة ، وكنت أتمنى الكلام عن الزحف المقدس لهذا الفن وهو يتفرج منتشيا على الصراع المكشوف بين الصحافة والفضائيات وهي تتنافس على عرضه وكسب وده ، ولكن من حقي وحقكم أن نؤجل الكلام والتنظير ، فثمة أمامنا جميعا مولود ثالث حلو وأنيق ونزيه ، يحمل إسم شقيقيه السابقين ( كاريكاتير عراقي ) ، غير معني بملاحقة النساء لأنه منشغل بمطاردة الفساد .. أعتقد إنه يقتضي التأمل ويستحق الاحتفاء ..
المقال نشر كمقدمة لكتاب جمعية الكاريكاتير العراقية الثالث، و نعيد نشره بإذن خاص من الكاتب
Air Max 1 Mid Liberty Max Kicks