لأن هناك محاولة، على الطريق، لفتح صفحة اغتيال الفنان الفلسطيني الكبير ناجي العلي، الذي جمعتني به صداقة حميمة وزمالة عمل استمرت عدة أعوام، فإنني أجد أنه لزاما علي أن أؤكد أنه إذا كان هدف هذه المحاولة هو توجيه الاتهامات التي وجهت لمنظمة التحرير وللرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الذي مضى هو بدوره شهيدا منذ أكثر من أربعة أعوام ونكء الجراح بعد اثنين وعشرين عاما فإنه لا بد من القول مسبقا إن هذا ليس في مصلحة هذا الفنان المبدع ولا في مصلحة عائلته ولا في مصلحة الشعب الفلسطيني ولا القضية الفلسطينية.
في عام 1987 بعد أن أُطلقت الرصاصات المجرمة الغادرة على رأس ناجي العلي من الخلف في وسط لندن التي جاءها «لاجئا» من الكويت، التي بادرت إلى إبعاده عن أراضيها تحت وطأة الخوف على حياته، ثار جدل صاخب على صفحات الصحف وفي وسائل الإعلام حول حقيقة الجهة الفاعلة وحول أسباب تلك الجريمة التي ووجهت باستنكار غير مسبوق من قبل الذين يعرفون هذا المبدع الفلسطيني والذين لا يعرفونه فهو كان نارا على علم وهو بما وصل إليه من شهرة غدا بحجم محمود درويش وغسان كنفاني وإدوارد سعيد.
برز بعد جريمة الاغتيال مباشرة، بينما كان الشهيد لا يزال في مستشفى «شيرنغ كروس» في لندن فاقدا الوعي وفي غيبوبة طويلة وبعد أن انتقل إلى جوار ربه، رأيان هما:
الأول، يصر على أن منظمة التحرير بأوامر وتعليمات من الرئيس الراحل ياسر عرفات، رحمه الله، هي التي نفذت عملية الاغتيال وقد حشد أصحاب وجهة النظر هذه وبعضهم كانت منطلقاته سياسية على خلفية الصراعات الفلسطينية الداخلية التي بلغت ذروة تأججها بعد الخروج من بيروت في أعقاب الغزو الإسرائيلي الشهير للبنان في عام 1982 في حين أن البعض الآخر انطلق من قضايا شخصية ومن عداءٍ للمنظمة والمقاومة والعمل الوطني الفلسطيني كله وبأسره.
لقد سيقت في هذا المجال مبررات كثيرة وجرى تضخيم ما اعتبر عداءً مستحكما بين ياسر عرفات (أبو عمار) وهذا الفنان المبدع ولقد نُسِجت في هذا المجال قصص بعضها من الخيال ويبتعد كثيرا عن الصحة وبعضها الآخر من غير الممكن إنكاره وإن كان استخدامه لإثبات التهم التي وجهت إلى منظمة التحرير ورئيسها قد ترافق مع مبالغة مفتعلة وصلت إلى حد الاستعانة بما اعتبر أمورا حميمية وشخصية.
إن المؤكد لو أن ناجي العلي بقي على قيد الحياة لتبرأ من الكثير مما قيل بعد استشهاده ومن بين هذا ادعاء تنظيم صبري البنا (أبو نضال) الذي كان يحمل اسم حركة (فتح – المجلس الثوري) بأنه كان عضوا في لجنته المركزية وهذا غير صحيح على الإطلاق والصحيح هو أن هذا الفنان المبدع، الذي امتشق ريشة الرسم الكرتوني من أجل فلسطين ومن أجل القضية الفلسطينية فأبدع أيما إبداع وشكل ظاهرة فدائية فنية لن يجود الوضع الفلسطيني بمثلها، بدأ حياته السياسية في حركة القوميين العرب، التي أسسها الدكتور جورج حبش عندما كان لا يزال طالبا في الجامعة الأميركية في بيروت، ثم عندما تحولت هذه الحركة إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تحول بعواطفه ومساندته السياسية إلى هذه الجبهة لكنه لم يكن ولا في أي يوم من الأيام عضوا فيها.
هناك كثيرون وبخاصة في الساحة الفلسطينية بادروا إلى تبني ناجي العلي سياسيا بعد استشهاده ليس حُبا فيه وبمواقفه وإنما كرها بـ«ياسر عرفات» وبمنظمة التحرير وحركة فتح ومثل هؤلاء بعض العرب وبخاصة في مجال الصحافة والإعلام الذين كانوا يحسبون أنفسهم على سوريا وعلى ليبيا وعلى جبهة الرفض العربية وحقيقة أن هؤلاء كلهم وصلوا إلى حد تبرئة إسرائيل من هذه الجريمة لتثبيت التهمة على هذا الطرف الفلسطيني الآنف الذكر وذلك دون التفكير بأن ما يقومون به سيتحول على المدى الأبعد وفي إطار تاريخ القضية الفلسطينية إلى إساءة لهذا الفنان المبدع ولعائلته التي أكثر ما يحزنها أن يسجل التاريخ أن القاتل هو فلسطيني مدفوع من قبل أعلى موقع في القيادة الفلسطينية.
إن هذا هو الرأي الأول، الذي لم يمتلك ولا يزال لا يمتلك أصحابه أي إثباتات فعلية لتأكيد اتهاماتهم هذه المشار إليها، أما الرأي الثاني الذي يفتقر هو بدوره إلى إثباتات فعلية لتأكيد وجهة نظره القائلة إن الإسرائيليين هم الذين ارتكبوا هذه الجريمة ليس للتخلص من هذا الفنان الذي كان جبهة مقاتلة بالفعل وإنما لتحميل مسؤولية اغتياله لمنظمة التحرير الفلسطينية لإلصاق تهمة الإرهاب بها مجددا وذلك في الوقت الذي بدأت فيه القيام بكل ما يخلصها من هذه التهمة التي بقيت تلاحقها منذ أن بدأ الفلسطينيون كفاحهم المسلح بانطلاق ثورتهم المعاصرة في العام 1965.
كان الإعلام العربي وغير العربي، إما بدافع البحث عن الإثارة أو بدافع تسديد حسابات الذين لهم حسابات سياسية وشخصية مع المنظمة ومع ياسر عرفات، قد خلق أجواءً ما كان من الممكن إلا أن تكون هذه المنظمة هي المتهم الأول حتى لو أن ناجي العلي رحمه الله قضى بحادث سير ليس في أحد شوارع لندن الخلفية وإنما في السماء السابعة فالتهمة كانت جاهزة سلفا والإشاعات التي سبقت عملية الاغتيال والتي من غير المستبعد أن يكون للاستخبارات الإسرائيلية الدور الأكبر فيها وفي ترويجها أعطت مصداقية لهذه التهمة حتى قبل وقوع تلك الجريمة المنكرة.
وحقيقة أنني كنت من أصحاب وجهة النظر الثانية لا من أجل الدفاع عن ياسر عرفات وعن منظمة التحرير وإنما من أجل تاريخ ناجي العلي المقبل وتاريخ عائلته فقد كان صعبا علي وقاسيا ولا يزال صعبا وقاسيا أن أتصور أن هذا الفلسطيني المبدع من الممكن أن يقتل برصاص منظمة التحرير وبتوجيه وتعليمات من القيادة الفلسطينية.
ولهذا فقد بادرت وبعد وقوع الجريمة بوقت قصير إلى كتابة تحقيق نشرته مجلة «المجلة» التي كنت أعمل فيها استندْتُ فيه إلى معلومات الصحف البريطانية وإلى ما قالته بعض الأوساط الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية حول شبكة استخبارية إسرائيلية استطاعت اختراق بعض الفلسطينيين المقيمين في لندن وبعضهم من المحسوبين على منظمة التحرير وقد قلت في هذا التحقيق، الذي نسيت وقائعه ونسيت ما تضمنه من أسماء بعد كل هذه السنوات الطويلة، وإن بصورة غير مباشرة، إن إسرائيل هي المسؤولة عن اغتيال ناجي العلي وإن هدفها هو تجديد إلصاق تهمة الإرهاب بالفلسطينيين لقطع الطريق على اتصالاتهم الناجحة بالأوروبيين وبالولايات المتحدة الأميركية.
إن هذا كله قد قلته قبل أيام عندما جاءني فريق عَرفْتُ بعد أن أنهى المقابلة التي أجراها معي في منـزلي في عمان أنه بصدد إعداد حلقتين مدتهما نحو ساعة ونصف الساعة عن اغتيال ناجي العلي لحساب «الجزيرة» وقد قلت أيضا في هذه المقابلة إن الحقيقة، أنه بالنسبة للشخص المنفذ لعملية الاغتيال وبالنسبة لتداخلات شبكة الاستخبارات الإسرائيلية التي استخدمت فلسطينيين لاختراق بعض أوساط منظمة التحرير في لندن، لا تعرفها إلا أجهزة الأمن البريطانية وأن من يريد فعلا الوقوف على هذه الحقيقة والحصول عليها أن يتجه إلى هذه الأجهزة عسى أن تفرج له عما عندها أو أن ينتظر حتى نهاية الثلاثين عاما حيث جرت العادة أن يكشف البريطانيون أسرارهم كلما مر عليها زمن كهذا الزمن.
في كل الأحوال وبغض النظر عما قلته في هذه المقابلة المطولة التي أجراها معي الفريق الذي يعمل لحساب «الجزيرة»، والتي سجَّلْتُ أنا وقائعها بكل أسئلتها وأجوبتها من قبيل التوثيق وللاستخدام في المستقبل فإنني أؤكد مجددا أنه حتى لو أن ناجي العلي قُتِل برصاص فلسطيني فإن المستفيد من قتله هو إسرائيل وأنه غير مستبعد أن تكون الاستخبارات الإسرائيلية وراء هذا الرصاص وهذا ينطبق على قتل صلاح خلف (أبو إياد) وهايل عبد الحميد وسعد صايل (أبو الوليد) وأيضا على ياسر عــرفات (أبو عمار) نفسه.. رحمهم الله جميعا.
nike free run 5.0 zappos