الكاريكاتير إبتسامة لحمها مر لمن يحاول افتراسها

قيم هذا الموضوع: 
لا يوجد تقييمات
المصدر: 
موقع عراق الغد
الكاتب: 
صائب خليل

معروف أن الخطوة الأولى لكل دكتاتورية ناشئة، هي تكميم الصحافة، وقد توالى "تقدم" الحكومة العراقية على هذا الدرب في خطوات متتابعة, ويحس الصحفيون به إحساساً أكثر مما يرونه عملياً. فكل صحفي، لا بد أن أحس بأنه، بالرغم من تحسن الأمن، صار أكثر خوفاً وتحسباً في كتابة ما يريد أو رسم ما يريد. فقد تتالت الضحايا التي هدفت الحكومة إلى جعلها "عبرة لمن اعتبر" وآخرها لوحتان لرسام الكاريكاتير سلمان عبد، القت السلطات الأمنية في كربلاء القبض عليهما، لا لشيء سوى أن رئيس الوزراء نوري المالكي ظهر في أحداهما، وظهر في الثانية وزير الداخلية جواد البولاني! (*) كتب سلمان يقول " ثمة محمد سعيد الصحاف يتربص إضافة إلى الأرقام اغتيالات الصحفيين والكتاب" ($).

أكتشف العالم منذ قديم زمان، أن الحكومات - جميع الحكومات بلا استثناء - تنحدر طبيعياً نحو الدكتاتورية، فإن وجدت حكومة ديمقراطية فاسأل عن الذي يمنعها من تحقيق صبوتها إلى الدكتاتورية، وبنفس الطريقة، إن وجدت دكتاتورية شديدة فاسأل عن التساهل الذي ترك لها أن تحقق أقصى أمانيها، وقد عبر "فرانك كنت" عن ذلك بوضوح حين قال: "شرور الحكومة تتناسب مع تساهل الشعب".

ليس سبب هذا "التقدم نحو الدكتاتورية" أن المالكي رجل شرير، ولا لأن سياسيينا أكثر من غيرهم استعداداً للرشوة، ولا تكمن العلة في حقيقة كوننا مستجدين على الديمقراطية, ولا في تخلفنا في علم السياسة. ليس أي من هذا هو السبب في المشكلة رغم أن كل منها تلعب دوراً مساعداً، أما السبب الحقيقي فهو الضعف الإنساني الطبيعي العام. قال جون آدمز منذ أكثر من قرنين: "إنه الضعف وليس الشر، ذلك الذي يجعل الإنسان ليس أهلاً للثقة لتسليمه سلطة غير محددة". ...هذا الضعف الإنساني موجود في كل حكومة ويدفع بها إلى الإنحلال، عندما توضع في يدها مقدرات الشعب دون رقيب (جفرسون)، وأهم رقيب هنا هو الصحافة.

ولنأخذ مثلنا من تاريخ أميركا نفسها، فلقد أدرك الأمريكان الأوائل الذين أسسوا دولتهم هذه الحقيقة، وكان بينهم البعض ممن أراد بناء ديمقراطية حقيقية على الأقل بقدر ما يفهمها الديمقراطيون في ذلك الوقت، فكانوا مبدعين في استشفاف المخاطر التي تواجهها من السلطات القادمة، التي علموا تماماً أنها ستنحو إلى الدكتاتورية إن لم يوقفها من يوقفها. لذلك ذكّر القاضي هوغو بلاك في إحدى مقولاته الناس بأن الصحافة خلقت لخدمة المحكومين وليس الحاكمين، وقال: "لقد تم إلغاء رقابة الحكومة على الصحافة لكي تتمكن الصحافة من الرقابة على الحكومة. لقد تمت حماية الصحافة لكي تتمكن من تعرية أسرار الحكومة وتنقلها إلى الناس. فالصحافة الحرة غير المحددة، هي وحدها القادرة على كشف خداع الحكومة بشكل فعال، ومن مسؤوليات الصحافة الجسيمة أن تمنع أي جزء من الحكومة من خداع الشعب, وإرسال أبنائه إلى البلدان البعيدة ليموتوا من حمى غريبة عنهم ورصاصة غريبة عنهم".

لقد تم منذ قرون إلغاء سلطة الحكومة للرقابة على الصحافة في الديمقراطيات، لكن "الهر"، محافظ كربلاء يريد ممن يقيم معرضاً للرسوم أن يحصل أولاً على إذن من الحكومة! اليس اشتراط الحصول على إذن حكومي لشراء فاكس في عراق صدام يبدو أسهل هضماً من شرط "الهر"؟

الوقاحة في الموضوع، والظريف فيه أيضاً، هو أن رسم المالكي والبولاني لم يكن أنتقادياً بل على العكس، كان أقرب إلى امتداح الرجلين! لكن يبدو أن الحكومة تريد أن تري رسامي الكاريكاتير ما يحصل لمن يتجرأ على رسم الحكومة حتى كاريكاتيراً مادحاً، لكي يرهبوا من قد يفكر في رسمها رسمها منتقداً. أن ما يستحقه المالكي من كاريكاتير ليس ما يصوره كمن يسعى جاهداً لإصلاح سيارة العراق التالفة، بل دوره المخادع في إيصالها إلى ما وصلت اليه. ما ينتظره المواطن كاريكاتير ينتقد موقف المالكي من الفصل السابع الذي صوره كعفريت يجب أن يضحي بحرية العراق من أجل التخلص منه، لكن بعد تلك التضحية، تنازل عن هذا الهدف بلا مقابل وبلا كلمة واحدة. بحاجة إلى كاريكاتير يمثل تهديد المالكي لشعبه إن لم يتم توقيع المعاهدة مع الأمريكان، وبحاجة إلى كاريكاتير وهو يمدد حالة الطوارئ بدون إذن من البرلمان. هذه هي الكاريكاتيرات المطلوبة والتي تخيف الحكومة حقاً. ولا يدفع بها إلى اعتقال كاريكاتيرات مسالمة تسمح بها معظم الدول الدكتاتورية، إلا الخوف من أن تصل الجرأة في الشعب العراقي إلى أن يرسم تلك الكاريكاتيرات التي تعيد للأذهان الأسئلة الكبيرة. إذا كان رئيس الوزراء رمز "هيبة" الحكومة التي يجب أن "يحترمها" الشعب ويتملقها فيرسمها جميلة ورقيقة وقوية دائماً، فأن وزير الداخلية كان في كل تاريخ العراق، رمزاً العصا الغليظة التي يجب أن يرهبها الشعب، وهاهي الديمقراطية العراقية الجديدة تؤكد ثانية بأن الفرق بينها وبين ما مضى فرق كمي وليس نوعي، وأنها جادة في قضم هذا الفرق منذ خمسة سنوات، ولا أحد يضمن كم سيبقى منه قبل ان يتوقف هذا الجهد "المبارك"!

لقد حاصرت الشرطة منزل سلمان وفتشته، فقال سلمان: ((أنا فقط أمتلك فرشاتي لأقنع الناس بأفكاري)). وأضاف: ((أنا لا أهدّد أي شخص، لأنني أستعمل فقط الفرشاة، وليس بندقية آلية)). وكم كان مخطئاً، سلمان هذا حين اعتبر أن فرشاته التي تقنع الناس بأفكاره" ليست بخطورة بندقية آلية على حكومة تهرول حثيثاً إلى الخداع والدكتاتورية. لقد وصل إلى الناس صوت كاريكاتيرك يا سلمان, ولم يكن "صرخة في واد" كما تقول, وإلا لما اعتبرته الحكومة إزعاجاً يستحق عناء إزالته وحماية نفسها من أثره، ولما هددتكم قائلة: "بعد لا اتسووها!"

"علينا أن نتذكر بأننا إن تقبلنا بجبن، هجوم غير شرعي على حرياتنا، فإننا نشجع القائمين به، وسيدفع آخرين ثمن تهاوننا." (سامويل آدمز1771 ). ولكي لا تمر محاولة "تأديب" من يجرؤ على فتح فمه أو قلمه من الشعب، ولكي تكون حادثة أعتقال لوحات سلمان "صرخة في واد" كما يقول سلمان نفسه، فلا بد من متابعتها بشكل مؤثر، يجعل الحكومة تفكر مرتين في المستقبل قبل أن تقدم على مثل هذا التكميم للصحافة المعبرة عن الناس. وما يفرح القلب أن سلمان يرفض "تقبل هذا الهجوم بجبن" وهو مصر على الدفاع عن حقه في التعبير عن رأيه، مدافعاً بذلك عن حقوق الآخرين في رأيهم ومساهماً في تثبيت علاقة سليمة بين الحكومة والناس، على عكس ما يطمح المالكي ويأمل "الهر" وعساكره.

ليس لأحد أن يطالب الآخرين بالبطولة والمخاطرة بحياتهم، ولكن، ومادمت مصراً على أن تستمر يا سلمان متحملاً المخاطر الهائلة، فأنت يا أخي في العراق، "كأنك في جفن الردى وهو نائم" فإننا نحييك ونقف معك ونفكر معك ليرد رسامو الكاريكاتير الصفعة بمثلها وأقوى للحكومة التي تتجرأ عساكرها على محاولة إغلاق فمها.

ولا ينقص سلمان الإبداع الرافض العملي إضافة إلى إبداعه الرافض الفني، فكان إن اقترح على إحدى منظمات المجتمع المدني أن يرسم أسبوعيا رسما بمساحة كبيرة لتطوف به سيارة في شوارع المدينة واحيائها. وجرب طبع الرسوم وتوزيعها على الناس وفاق نجاح الرسم الأول التوقعات وصار حديث الناس وعلقه البعض في محلاتهم، وهو الدليل القاطع على أنها كانت تعبر عن مشاعرهم خير تعبير.

لقد اقترحت في مقال سابق لي أن يتضامن الصحفيون فيما بينهم ليحموا كل منهم من الإعتداء, بأن يزيدوا نشر نتاج ومؤازرة من يتعرض منهم إلى محاولة إسكاته أو أغتياله، مما يدمي المعتدي كما تدمي أشواك القنفذ الأفعى المعتدية (#). فالدكتاتوريات ترتعب من أشباح الشهداء والأبطال وتبتعد عنها.

لذلك فأني أقترح هنا القيام بتظاهرة كاريكاتيرية تتبناها واحدة أو أكثر من المؤسسات الصحفية، وربما تكون تظاهرة سنوية تخصص كل سنة منها لموضوع معين على أن يكون الموضوع الأول عن الكاريكاتير ومقاومته لدكتاتورية الحكومة ورقابتها. إنها فرصة متاحة لتثبيت العلاقة بين الحكومة والكاريكاتير والصحافة عموماً، فلن تجرؤ الحكومة على أن تضرب القنفذ ثانية إن كانت أشواكه منتصبة تنال من يدها المعتدية وتدميها.

يجب أن يفهم كل مواطن أن مؤسسات النظام الديمقراطي، من أحزاب وقانون وصحافة ودستور وبرلمان، إنما هي "أدوات" للديمقراطية، أدوات ليحكم بواسطتها نفسه وبلده بنفسه، وأن الأدوات لا تقوم بالعمل بنفسها، إنما تتيح لمن يريد العمل، أن يقوم به على خير وجه. أما من ينتظر متذمراً فهو كمن يضع السبانات والمفكات قرب سيارته العاطلة ويتبرم من أنها لم تقم بإصلاحها!

عندما اغتال الإحتلال، البطل الأمين على صوت شعبه، صالح العكيلي، فقد أراد أن يرسل رسالة الى الناس بأنه قادر على ارتكاب القتل مثل صدام لأسكات الأصوات التي تزعجه، إن هو احتاج ذلك، وهاهو المالكي يرسل رسالة مشابهة لمن يفكر بفتح فمه من الناس، حتى بكاريكاتير حيادي أو متودد، فالكاريكاتير يعرقل بناء "هيبة" الحكومة ويعرقل بناء خوف الناس منها، وذلك غير مقبول لمن يطمح إلى بناء دكتاتوريته الجديدة، فـ "الضحك خير رد على الغرور" كما قال أحد الفلاسفة، لذا يجب أن تخرس الأفواه الضاحكة بالخوف.

لكن الحرية نبتة عنيدة وفاتنة، تخرج من بين الصخور لتغري عشاقتها بجمالها وسحرها، وستجد دائماً من يهرع اليها، ليس من قبل الصحفيين والناس وأصدقاءهم فقط، بل ومن داخل الحكومة والبرلمان من الرافضين لمثل هذا التصرفات مثل مفيد الجزائري. ليثبت رسامي الكاريكاتير، بشجاعتهم ومبادراتهم الخلاقة، أنهم قادرون على التحمل، ماهرون في الصراع, وأن ريشتهم المفعمة بالإبتسامات، قادرة على الدفاع عن نفسها وأن "لحمها مر"!

Footwear

معرض الصور