قيم هذا الموضوع:
المصدر:
جريدة الصباح الجديد - العراق
الكاتب:
كفاح محمود
1)
لا اتذكر اول كاركتير رسمته بحياتي ربما لم اقم انا برسمه بل رسمته الحياة وكنت انا احد ابطاله، وقتها كان عمري بحدود الخمس سنوات عندما قمت بزيارة الى اقاربنا في احدى قرى مدينة كربلاء الجميلة خرجت يومها لألعب مع الصبية قرب جدول الماء وكانوا اناثا وذكورا يسبحون في الجدول بحرية كبيرة ومن دون ملابس فجعت للوهلة الاولى لما شاهدته، لقد كان هناك اختلاف كبير بين ما يمتلكه الاولاد من اعضاء جنسية وبين ما تمتلكه البنات، صدمت وفجعت واصبت بحالة من الهلع واحسست بان هناك خطأ ما فلا يعقل ان يكون الاختلاف بهذا الحجم الهائل وشعرت بحزن كبير لان هناك شيئا ما ينقص فتيات القرية، رجعت راكضا الى أمي التي كانت تجلس وسط مجموعة كبيرة من النساء اللواتي اجتمعن مرحبات بها وعندما دخلت الغرفة صرخت باعلى صوتي من هول ما شاهدت ومن شدة المفاجأة التي نزلت على رأسي قرب جدول النهر فضحكت النساء كثيرا وحاولن اقناعي بان هذا الشيء طبيعي لكني لم اقتنع فتبرعت احداهن واسمها فاطمة واخترعت لي قصة مفادها بان السعلاة التي تقبع في جوف الجدول غضبت على فتيات القرية وقامت بمعاقبتهن فالتهمت كل ما يتعلق بهذا الموضوع من متعلقات وحصل ما حصل ونصحتني بعدم السباحة في الجدول لكي لايحصل لي ما حصل لبنات القرية . ومن يومها لم افكر بالسباحة في النهر ولا في اي مكان اخر واكتفيت بالاستحمام في حمام المنزل فهو ارحم واستر . قد تكون هذه الحادثة هي الاكثر كاريكاتورية في بداية حياتي . لقد فتحت الباب على مصراعيه للدخول الى عالم المفارقة الساخرة . هذه المفارقات التي اكثرها محزن واقلها مضحك . هي الوجه الاخر للالم وما هي مهمة فنان الكاريكاتير او الفنان الكوميدي سوى تحويل الالم الى مفارقة ساخرة . ومن هنا نستخلص بان الكاركتير ليس نكتة او طرفة عابرة كما يعتقد البعض او كما يراد ان يكون في بعض الاحيان بل هو الوجه الاخر للمأساة وعندما نبحث او نحلل كل كارثة مرت بنا نجد الكثير من الجوانب الكوميدية السوداء ان ضحك الكاركتير هو ضحك حزين ممزوج بمرارة المأساة التي انتجته انه ضحك كالبكاء بل هو بكاء ضاحك !
(2)
انا ارسم لكي اتخلص من كوابيس الحرب ومشاهد الدمار والقتل والدم ومن صور الدبابات والطائرات التي تقصفنا كل يوم ومن صواريخ الارض ـ ارض التي كما نشاهدها تطير فوقنا ونحن نيام في سطح المنزل وفي صباحات الصيف العراقي الخانق وتنزل على لتمسح مناطق باكملها من على وجه المدينة الحزين الموت يحاصرنا من جميع الاتجاهات ولم نكن نرى بصيصا للامل في الافق . الذاكرة مثخنة بالجراح ومعبأة بمئات التوابيت التي تفوح منها رائحة القتل . الموت المجاني والبرنامج اليومي الذي كنا نشاهده مساء كل يوم " صور من المعركة " لايزال عالقا بصوت المذيع الجهوري وهو يمجد مشاهد القتل ويفخر بصوت الدمار ويسخر من مشاهد اللحم المشوي وصور الاذرع والارجل والرؤوس المبعثرة هنا وهناك . لذلك فانا اسمي الكوميديا العراقية الحديثة بالكوميديا الحمراء بدلا من السوداء لكثرة ما نزف من دماء في هذه الفترة القصيرة من تاريخ العراق الحديث.
انا هنا في الغربة ارى الوطن بشكل اوضح من السابق، كان شريط الاحداث يمر امامنا بشكل سريع جدا فلم افهم منه شيئا او على الاقل فهمت القليل القليل . شريط الاحداث الماضية صار شريط ذكريات واصبح يدور ببطء . وصرت ارى الاحداث الماضية بشكل اوضح شيئا فشيئا وبدات امامي تتكشف اكثر فاكثر انا لم اسافر الى الخارج انها رحلة نحو الداخل داخل الذات والوطن في آن معا، انه سفر باتجاه الداخل داخل، الروح والنفس رحلة بين زوايا العقل اخيرا بدات التعرف على نفسي حتى ولو بشئ يسير .
(3)
في هولندا اشعر بالسعادة وانا امارس فن الكاركتير لكنني عندما كنت في العراق كان لا يراودني هذا الشعور لان السعادة كانت مرتبطة باشياء اخرى كالخبز والماء والبصل والهواء والثوم والعدس والشاي والسكر والقائمة تطول وفي مؤخرتها البطاطا التي كانت تمنحنا نحن الفقراء سعادة غريبة عند الحصول عليها بعد طول انتظار لانها كانت تفقد من الاسواق لفترات طويلة وبعد ان تنزل الى الاسواق يتجند كل لفراد العائلة في سبيل الحصول على اكبر كمية من البطاطا التي ستمنح افراد الاسرة سعادة من نوع خاص مصدرها المعدة .
ان الفن المقيد المتقن في ظل الانظمة الدكتاتورية لايمنح الفنان او المجتمع اي نوع من انواع الرضا او السعادة التي مصدرها العقل لان الفن بالنتيجة هو متعة عقلية وعندما تكون المعدة مشغولة بالبحث عن الخبز او البطاطا عنما يتوقف العقل عن الشعور او التفكير او الاحساس باي قيمة من قيم الجمال وعندها لايلعب الفن اي دور ايجابي في المجتمع المغيب عن الحياة .
لقطات كاريكاتورية
اشعر بالذنب عندما يمر يوم دون ان ارسم فيه كاركتيرا واحدا على الاقل .
رسمت اجمل لوحاتي الكاريكاتورية بعد ان ابتعد عن جو الصحافة او لنقل كلما ابتعدت عن الصحافة واقتربت الى نفسي اجدني اكثر تالقا واكثر صدقا وانتاجا .
قال لي احد الصحفيين لقد شاهدت جميع لوحاتك الكاريكاتورية واعجبت بها كثيرا وفهمت ما تريد ان تقوله او ما تريد ان تبوح به لكن الشئ الوحيد الذي لم استوعبه في جميع اللوحات هو هذا التكوين الغريب الموجود اسفل اللوحة . واشار بيده الى توقيعي فقلت له هذا اسمي يا استاذ : فقال : الحقيقة لم يخطر على بالي اطلاقا !
سالني احدهم " هو من المغرمين بنظرية المؤامرة " هل صحيح ان اصل الكاريكاتير صهيوني وان المراد به السيطرة على عقول البشر في ارجاء العالم ؟
فقلت له حتى كان ذلك صحيحا فلا تخف فان هناك ميزتين غير موجودتين لديك فقال: ما هاتان الميزتان ؟ فقلت له : انت قلت للسيطرة على عقول البشر فاحمد الله لانك لست من اصحاب العقول ولا اعتقد بانك من جنس البشر !! فانصرف بعيدا عني وهو يشتم سنسفيل اجدادي .
سأفكر بالموضوع
اتصل بي احد الصحفيين في الاردن وطلب مني التعاون معهم في الجريدة التي يفكرون باصدارها بعد يوم او بعد اسبوع او بعد شهر او بعد سنة او بعد ان يحصلوا على تمويل من مكان ما فقلت له مجاملة : سافكر بالموضوع لاني كنت وقتها اعمل في اكثر من خمس صحف اردنية في نفس الوقت واطبقت سماعة الهاتف ونسيت الموضوع في زحمة العمل الصحفي وبعد اسبوع اتصل بي هذا الصحفي وقال لي : لقد قرننا الاستغناء عن خدماتك لانك لست من الموالين للنظام الحاكم في بلدك ! فقلت له شكرا لقد ارحتني كثيرا وهذه شهادة اعتز بها . الغريب ان هذه الجريدة التي فصلت منها لم يصدر منها اي عدد ولحد هذه اللحظة !
اوطاننا العربية عبارة عن وطنين: وطن مادي ووطن روحي فالمادي للحاكم والروحي بكل ما يحمله من شعارات وهتافات وجوع للمحكوم .
بطل السجن القومي
الوطن ليس حذاء يباع ويشترى واذا كان كذلك فاعطني حذاء وخذ وطني هناك حالة ترويض مستمرة للانسان العربي منذ اليوم الاول لولادته وحتى اللحظات الاخيرة من حياته من قبل جميع الاطراف المحيطة به شاء من شاء وابى من ابى !
يجب الا يكون الفنان ردة فعل للاحداث بل يجب ان يكون المبادر لاستقراء الواقع .
غالبية الناس يحبون ان يسمعوا صدى صوتهم في الاخر وان لايسمعوا الاخر نفسه بل يتمنوا ان يكون الاخر عبارة عن جدار نسمع صدى صوتنا من خلاله . نحن نخاف من الاخر عندما يكون مختلف عنا .
وطني ورقة بيضاء وقلم وقليل من الحبر الاسود وشئ من الحرية والاحساس بالامان او ما عدا ذلك يصبح الوطن مجرد شعارات فارغة ليس لها معنى او مكان من الاعراب فماذا يعني ان يعيش الانسان مجردا من ادواته؟!هذا يعني ان يتحول من كائن حي يفكر الى جدار تعلق عليه شعارات الحزب والثورة او صور القائد الرمز وفي احسن الاحوال مكان يتبول عليه المارة والمتسكعون ليلا في شوارع المدينة .