لعلّ جلال الرفاعي أوّل فنّان كاريكاتور محترف في الصحافة الأردنيّة، فهو ينشر رسوماته منذ العام 72 علي صفحات (الدستور) الأردنيّة.
في مجلد (هموم الناس) الذي يضّم مئات من رسوماته، والصادر عام 95، كتب الراحل محمود الشريف مؤسس الدستور مقدمة جاء فيها: رسام (الكاريكاتور) الناجح فنّان عظيم !
ذلك أنه في تهكمه علي الناس والأحداث يحاول أن يكشف عمّا في الحياة من زيف، وعمّا في بعض التقاليد من سخافة، وعمّا في سلوك السلطة ـ كل سلطة أحياناً ـ من تلوّن ورياء.
برأي الشريف أن رسّام الكاريكاتور الناجح فيلسوف اختار الهزل وسيلةً للنقد والإصلاح، ومحمود الشريف الصحفي والإعلامي الكبير، يضع فنّان الكاريكاتور في موقع رفيع، ويصحح فكرة بعض الناس عنه بأنه يسلّي برسوماته، وينتزع الضحكة المؤقتة التي تتبدّد مع تقليب صفحات الجريدة.
نعرف من مقدمة الراحل محمود الشريف أن جلال الرفاعي بدأ رحلته مع (الدستور) عام 72، ومن بعد سافر إلي لندن طلباً للعلم، ومن ثمّ عمل في الإمارات حتي العام 80 ليعود إلي الأردن ويستأنف عمله مع (الدستور).
عرفت جلال الرفاعي مع نهاية الستينات، تحديداً بعد حزيران 67، وكنّا معاً في بداية الرحلة، ومنذ عرفته ترك لدي انطباعاً بأنه أميل للهدوء، وأنه ودود في علاقاته وتعامله، يسخّر وقته لخدمة فنّه، فبه يقول، ويبدي الرأي، وينتقد، ويسخر من خلال فنّه.
أهداني قبل سنوات مجلّد رسوماته (هموم الناس)، والذي عدت إليه بعد توقّف الحرب العدوانية علي لبنان، بعد أن شدّني برسوماته اللاذعة الجريئة والبارعة أثناء الحرب.
خطوط جلال بسيطة لطيفة، وحركات الوجوه والعيون وتكوينات الملامح تعبّر عن شخصيات مخاتلة منافقة، أو منكسرة مذلّة مهانة، وأحياناً مخاتلة مراوغة لأنها ضعيفة، أو لسعيها للقفز إلي وظيفة أعلي، أو انتهازاً لفرصة.
في أول رسم في كتابه (هموم الناس) نري الملامح التي تضيف لها الكلمات فنضحك: طالعة إشاعة إني ما بقبل الواسطة، ولا الرشوة، ولا المحسوبيّة.. بدّي تعرف لي مين هذا اللي عايز يدمّرني، وتفصله...
في الرسم مدير منقبض الملامح، يجثم علي كرسيّه وراء طاولة ليس علي سطحها أوراق (قضايا)، لأن قضية هذا المدير الإسراع في (تدبير) أموره، ومرؤوس متهدّل في يده ملف لن يقدّمه للمدير الغاضب من إشاعة تفسد عليه سرعة تدبير أموره.
يبدأ جلال الرفاعي نقده من فساد الإدارة، فعندما تكون الإدارة فاسدة فكل شيء فاسد، والمجتمع يدور في دوّامة الفساد فتتعطّل حياته، وتنحّط أخلاقه.
في هكذا إدارة فاسدة يفصل شاب من عمله بحجّة إحالته للتقاعد، ومن يفصله عجوز علي حافة قبره! دهشة وجه الشاب، وحركة يده علي ذقنه، وانحناءة المدير علي الطاولة، ورثاثته لا تتيح لنا سوي أن نبتسم مغيظين.
كاريكاتور جلال يعتمد (الحركة)، تماماً كما في المسرح الذي يخاطب العقل والوجدان، ولا يعتمد فرقعة الضحكات من الأفيهات: مدير وأمامه تل من المعاملات المتراكمة، أصلع، بقايا شعر حول الرأس نافشة، أمامه عجوز مثله، كأنه وجهه الآخر، يمّد له يده برزمة، يقول المدير: أنا مؤمن جداً بـ النقد البناء لأنه بدون نقد، ما بقدر أقوم بـ البناء اللي ابتديت فيه!
جلال يلعب علي كلمة (نقد) بمعني (المال) وبمعني (الانتقاد)، لكن ملامح الوجوه، وحركة الأجساد هي ما يدلل علي براعة الفنّان.
التهاني في الأردن علي صفحات الصحف مزمنة، لذا يسخر منها جلال، كعادة اجتماعية نفاقية، فالمدير يصرخ في وجه (أحدهم): يا رجل حل عنّي، خليني أعرف أشتغل.. صرت مهنيني عشرين مرّة هاليومين. هذا مدير يريد أن يشتغل، مدير لم يفسد بعد، مدير ستحاول ماكنة الإفساد الاجتماعي زحزحته عن جادة النزاهة والاستقامة ليسلك طريق المدير المؤمن (بالنقد البنّاء)!
في الحرب التي شنّت علي لبنان تنبهّت أكثر من أي وقت لإبداع جلال الرفاعي، الفنّان المتابع بيقظة، والناقد اللاذع للكذب والتعمية السياسيّة، والذي يمكن وصفه بأنه فنّان يبدع علي موجة جماهير أمّته، وقضاياها.
سأتوقف عند بعض ما أبدعه جلال في أيّام الحرب المجيدة، حرب المقاومة والشعب اللبناني.
في عدد (الدستور) يوم 6 آب (اغسطس) يرسم بالألوان، وبدون كلمة واحدة، صورة لشخص يمسك ببلطة ويقطع ساق شجرة أرز، ولكن فسيلة عنيدة تنبت وتدفع مؤخّرة من توهّم أنه يجتث الأرز، وهو يشبه (أولمرت) مع التشويه للملامح الذي يشي بجهل وحماقة وعنصرية قاطع الأشجار سواء في لبنان أو فلسطين.
في عدد (الدستور) ليوم 8 آب (اغسطس)، رسمة تظهر (شيراك) وهو غارق حتي منتصف جسده وبكامل أناقته المعهودة في بركة دم، وقد رفع يافطة مكتوب عليها: مشروع قرار فرنسي ـ أمريكي مشترك، بينما بسطار عسكري عليه نجمة داوود وus، والدم يتطاير منه يمضي في القتل والتدمير...
بمناسبة اجتماع وزراء الخارجيّة العرب رسم جلال الرفاعي طائرة، ووزيراً بحقيبة غليظة مكتوب عليها: مؤتمر وزراء الخارجيّة العرب، ومواطنين أحدهما مقحمش من الضحك، والآخر في يده سبحة، والتعليق: إشي بيضحّك.. قال الأخ خايف الطيران الإسرائيلي يقصفه وهوه رايح علبنان!...
في عدد 20 آب (اغسطس) يرسم بالألوان جنديّاً صهيونيّاً وهو يجّر (الحكومة الفلسطينيّة) من قدميها وهو مدجج بالصواريخ، بينما (عربي) يبدو رسمياً يبدي مشاعر التعاطف قائلاً: إجمد وخليّك متمسّك بالأرض واحنا وراك!!
ولأن المواطن العربي ما عاد يمكن الضحك علي لحيته ببيان إنشائي فيّاض بالكذب والتدليس، فقد عبّر جلال عن هذا في عدد يوم 21 آب (اغسطس): ولقد وقفنا، وسنقف إلي جانب الاخوة اللبنانيين والاخوة الفلسطينيين، وسندعم جهودهم وتضحياتهم، نري وزيراً (ما) يقرأ من بيان وزراء الخارجيّة العرب، بينما مواطن مشمئز ومواطن قرفان، وفوق رأسيهما تعليق لأحدهما : لو الدنيا رمضان لقول إنه برنامج الكاميرا الخفيّة.
التعليق والصورة معاً يوصلان غرض الفنّان، والكلام سلس، باللهجة العامية المبسّطة القريبة من كلام الناس...
ولأن حزب الله قدّم دروساً لمن يريد التعلّم، فإن جلال ينطق بلسان الناس، وما يراود عقولهم، بما يريدونه للمقاومين في فلسطين، فقد رسم في عدد 19 آب (اغسطس) صورة لأم فلسطينيّة تمشي وراء مقاوم مدجج بصاروخ، وهو يعلن: أنا فلان الفـــلاني من الفصيل العلاني أسكن في منطقة كذا في الشــــارع كذا.. في حارة كذا... رايح اقصف المستعـــــمرات الإســرائيليّة.. ولقد أعذر من أنذر !!
إحدي فضائح الدول العربيّة صفقات السلاح بالمليارات، تلك الأسلحة التي لم ترد عدواً، ولم تحرر أرضا، وبددت المليارات بسفاهة، وزادت فضيحتها ببطولات حزب الله قاهر الجيش الذي لا يقهر وبأسلحة متواضعة. يرسم جلال في عدد (الدستور) بتاريخ 23 آب (اغسطس) كاريكاتوراً نري فيه معرضاً لأسلحة من كل الأنواع: صواريخ، طائرات، دبّابات، بنادق، و..(عربي) منفوخ الكرش، يحمل حقيبة عليها علامة الدولار الأمريكي، وهو يشير إلي الأسلحة المعروضة، وفي مواجهته (غربي) يسجّل الطلبيّة، والمشتري العربي يشير إلي الأسلحة: أعطيني عشرين حبّة من هذول، وثلاثين حبّة من هذولاك، و15 حبّة من الواقفين هذول و.. خليهن عنكم في مخازنكم لأنه المخازن عندنا مليانة وما فيها وسع!!
ولأن بعض العرب انشغلوا بغير براءة، بعضهم بصفاقة، في تفجير السؤال: من انتصر؟! فقد شارك الفنان بفنه، قل بمبضعه، فاضحاً سفاهة المشككين بصمود وبطولة وانتصار المقاومة علي المخططات الأمريكيّة (الإسرائيليّة) في معركة الـ33 يوماً. في عدد (الدستور) يوم 27 آب (اغسطس)، برسم ملوّن، رجل ضعيف بملابس رثّة يصرخ: حزب الله انتصر، ورجل متبعّج الجسد، ملابسه أنيقة، بكرافة ملوّنة ووجه سمين، يجأر: إسرائيل انتصرت، وخلفه جندي (إسرائيلي) يربت علي ظهره ويشجّعه : اللهم قوّي إيمانك!
للشرق الأوسط الجديد نصيب في ما أبدعه جلال الرفاعي الذي شارك ملايين العرب في (مقاومتهم) للكذب الأمريكي، ففي عدد (الدستور) يوم 9 آب (اغسطس)، نقرأ يافطة كتبت عليها الكلمات: شرق أوسط جديد، يرفعها بوش وقد ضمّ شريكه في الحرب (أولمرت) الذي تقطر يده دماً، تتقدمهم (كوندوليزا) ببطن منتفخة (حبلي) بمخلوق أنيابه تخترق ثوب كوندوليزا متوعدّة بشرق أوسط هو وليمة لهذا الوحش...
لو سئل كثـــيرون في بلاد العرب هذه الأيّام عن الزعــيم (العربي) الحقيقي، لأجابو : شافيز...
شافيز سحب سفير بلاده فنزويلا من دولة العدوان (إسرائيل)، وهو أعلن علي فضائيّة الجزيرة بأنه (ناصري) حقيقي، ولهذا استحّق أن يكرّمه جلال الرفاعي برسمة جميلة في عدد 11 آب (اغسطس)، فهو يظهره بملامح محببة وقد اعتمر كوفيّة وعقالاً، وبيده اليسري حقيبة سفر عليها اسمه: شافيز العربي، بينما علي يمينه خواجه ببرنيطة، وعيناه محوّلتان من الغيظ وهو يديرهما باتجاه شافيز المبتسم، وعلي حقيبة الخواجه العربي المتفرنج : أبوعرب ال...!!
العروبة ليست مجرّد الولادة لأبوين عربيين، ومعركة لبنان التي تآمر عليها عرب (أقحاح) جعلت ملايين العرب يرون في شافيز (أخاً) و(رفيقاً) أقرب إليهم بكثير من عرب يتآمرون علي المقاومة في فلسطين، والعراق، ولبنان.
يوم 18 آب، نشرت (الدستور) علي الصفحة 20 لجلال (كاريكاتور) هو طائرة فانتوم ـ من شكلها ـ علي ذيلها نجمة داوود، فيها طيّار يجلس في كابينة مكشوفة، يمّد يده متوعداً حزب الله الذي يصوره جلال ولداً بشعر خشن، وأنف طويل هو عبارة عن صاروخ، ويد نحيلة ترسم صورة أصابعها شارة النصر، وكلمات يطلقها الطيّار الصهيوني : طيّب والله لوريك..ومن الطائرة تنطلق صواريخ تلاحق طفلةً وطفلاً !
جلال الرفاعي فنّان كبير أصيل، يتغلغل بفنّه في (روح) مجتمعه المحلّي ويتابع بوعي وجديّة وانحياز قضايا أمّته وفي القلب منها : فلسطين، وهو كفنّان أصيل لا يجامل.
هذه الكلمة مجرّد تحيّة لهذا الفنّان الكبير، وعذراً لأنني تأخرت في توجيهها له، وهي دعوة لمتابعي (الدستور) في الأردن، والأقطار العربيّة، وخّاصة نقّاد الفّن للتوقّف عند نتاجه الجدير بالاهتـمام أسوة بالكبار، لأنه واحد منهم بالتأكيد.
Footwear