قبل يومين (الإثنين الماضي) حلَّت الذكرى العشرون لاغتيال الفنان الفلسطيني المبدع ناجي العلي الذي لاحقه «كاتم الصوت»، الذي طالما رسمه بأشكال مفزعة وحذر منه نفسه والآخرين، الى أحد شوارع لندن التي كان جاءها هارباً بريشته بعدما اشتد عليه الضغط في بلاد العُرب الممتدة من الشام لتطوان ومن الخليج الثائر حتى المحيط الهادر!!.
اهتدى ناجي العلي الى الريشة وأصبح رساماً عبر دروب المخيمات الموحلة الضيقة و«حنظلة»، ذلك الصبي الذي قال على لسانه كل شيء أراد قوله، هو نفسه ناجي العلي.. والذي اكتشف هذا الفنان الذي كان ظاهرة لا تعوض والذي بزغ نجمه في بداية بزوغ نجم المقاومة الفلسطينية هو الكاتب والصحفي والروائي والمناضل المبدع غسان كنفاني الذي كان اغتيل بسيارة متفجرة في لبنان قبل اغتيال ناجي العلي بنحو خمسة عشر عاماً .
عندما بدأ ناجي العلي يدرك بؤس المخيمات وأخذ يبحث عن طريق العودة الى فلسطين وجد أمامه حركة القوميين العرب، التي كان أسسها زملاء في الجامعة الأميركية في بيروت في عقد خمسينات القرن الماضي في مقدمتهم الدكتور جورج حبش والدكتور وديع حداد، ولعل ما أعجب هذا الشاب الفلسطيني الناقم بهذه الحركة هو شعارها القائل: «دم حديد نار.. وحدة تحرر ثار» فهذا هو ما كان يريده وهذا هو ما كان يظن أنه سيعيده الى قريته الفلسطينية التي غادرها أهلها ومفاتيح منازلهم معهم ظناً منهم أن اللجوء لن يطول وأن العودة ستكون قريبة!
في إطار هذه الحركة تعرف ناجي العلي على كثيرين من أبناء جيله، بعضهم جاء إليها عبر دروب المخيمات مثله وبعضهم الآخر جاء إليها من أحياء رغد العيش ومن الجامعات والمعاهد الراقية، والمؤكد أن الذي أشرف على الخلية الأولى في حركة القوميين العرب التي أصبح هذا الفنان المبدع عضواً فيها هو أحمد اليماني (أبو ماهر) الذي أصبح أحد قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والذي أصبح أحد أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير والذي قبل تجربة الهجرة التي طال أمدها، كان يحمل البطاقة رقم واحد في نقابة العمال الفلسطينية.
لم يجد ناجي العلي ما يعبر به عما يختلج في صدره وفي نفسه من مرارة ومن حقد على الذين احتلوا وطنه، والذين تآمروا وساعدوا المحتلين ليكون هذا الاحتلال سوى «الخربشات» الطفولية البسيطة، وكان من الممكن ان تبقى تلك «الخربشات» خربشات لو لم يضع الله على هذا الطريق غسان كنفاني الذي اكتشف وبالصدفة موهبة غدت ظاهرة في عالم الرسم ال«كاريكاتوري» الملتزم.
وهكذا فقد صب ناجي العلي، الذي تنقل ما بين بيروت والكويت أكثر من مرة ثم بعد ذلك الى لندن حيث اغتاله كاتم الصوت في أحد شوارعها، جام غضب ريشته على الذين إعتقد أنهم سبب مأساة شعبه فرسم رجالاً متكرِّشين بأقفية مكشوفة يركعون بذلٍّ ومهانة عند أقدام «الخواجات» الأميركيين والبريطانيين والإسرائيليين أيضاً ولقد جلبت إليه هذه الرسومات وغيرها مصاعب كثيرة وخلقت له عداوات بقيت تلاحقه حتى آخر لحظة في حياته.
كانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الدكتور جورج حبش أقرب إليه من أي تنظيم آخر، مع أنه لم يلتزم تنظيمياً بهذه الجبهة ولا بأي فصيل فلسطيني آخر ولا بأي حزب أو تنظيم منذ أن انتهت علاقته المبكرة بحركة القوميين العرب، ولذلك فإنه بقي على خصام بدون أية أحقادٍ مع حركة " »فتح» وكان دائماً ضد أن يدخل ياسر عرفات (أبو عمار) أبواب المساومات والألاعيب والمناورات السياسية.
لم يكن راضياً عن ذهاب «أبو عمار» الى الأمم المتحدة في بدايات عقد سبعينات القرن الماضي ولم يكن معجباً بالشعار الذي طرحه هذا الزعيم الفلسطيني أمام الجمعية العمومية في تلك الرحلة غير المسبوقة: «لقد جئتكم وغصن الزيتون في يدٍ والبندقية في اليد الأخرى وأرجوكم ألا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي»!!.
كان أبو عمار قد قام، في تلك الفترة الانتقالية، حيث بدأت مسيرة التحول من الكفاح المسلح وما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، كوسيلة وحيدة لتحرير فلسطين الى العمل السياسي والمفاوضات، بأول زيارة له الى تركيا، ولذلك ولأن هذه الدولة كانت تصنف على أنها حليفة الـ «المعسكر الإمبريالي» ضد «المعسكر الاشتراكي التحرري» !! فقد رسم ناجي العلي في آخر صفحة من جريدة «السفير» اللبنانية، التي كان قد عاد إليها من الكويت، ياسر عرفات في هيئة شرطيٍّ بيده سوط (كرباج) وكان يجلد بذلك السوط لواء الإسكندرون الذي رسمه في هيئة فتاة جميلة عربية الملامح.
عندما عاد أبو عمار من تلك الزيارة التي كان يعتقد أنها بحجم فتح الأندلس نظراً لأهمية ومكانة تركيا في ذلك الحين، حرضه كثيرون من «محاريك الشر» وتجار المواقف الرخيصة على ناجي العلي بسبب هذا الكاريكاتور، فكان جفاء وكان من الممكن ان يحدث ما هو أكثر من مجرد العتب لو لم يتحرك وسطاء الخير لترتيب لقاء عشاءٍ تم في منزل رئيس تحرير مجلة «فلسطين الثورة» في ذلك الحين أحمد عبد الرحمن ضم ياسر عرفات وهذا الرسام المشاغب المبدع ورئيس تحرير صحيفة «السفير» طلال سلمان وبعض العاملين فيها مثل الأستاذ بلال الحسن.. وأنا العبد الفقير الى الله سبحانه وتعالى.
بعدما دخل أبو عمار الى حيث كان يجلس الجميع في بهو منزل أحمد عبد الرحمن، الذي هو الآن الناطق الرسمي باسم السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله، اتجه فوراً نحو ناجي العلي وضمه الى صدره بذراعيه وأخذ يقبله على رأسه وعلى جبينه ووجنتيه وهو يشد بيديه شعره الأشهب بحنان والد التقى ابنه بعد غيبة طويلة.
في تلك الجلسة التي اعتبرت جلسة مصارحة ومصالحه بين فنان فلسطيني مبدع من حقه أن يتجاوز كل الحدود وبين زعيم وقائد «الثورة» التي بقي هذا الفنان المبدع يراهن عليها حتى آخر لحظة من عمره الذي لم يكن مديداً والذي أعطاه كله وأيضاً أعطى زوجته وأطفاله للقضية الفلسطينية التي لم تكن له قضية غيرها.
بعد تلك الجلسة بقيت الأمور سمناً وعسلاً بين الفنان المبدع وبين قائد الثورة التي أعطاها الفنان ريشته وعمره وكل وقته، وكان ناجي العلي في زمن ذلك الحصار الشهير بعد الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982 بحجم فيلق مدرع كامل في مواجهة ذلك الغزو، فقد كان يطل في صبيحة كل يوم على أهل بيروت برسمة تحرض على الصمود والمقاومة، الى أن كان ذلك الرحيل الموجع فرحل هو بدوره الى الكويت واستأنف إبداعه الفني على صفحات أهم الصحف الكويتية التي لا تزال تصدر حتى الآن.
كانت «المرحلة الكويتية» الجديدة بالنسبة لإبداعات ناجي العلي مرحلة شغب ومشاكسة، وكان غير راضٍ عن المسيرة الفلسطينية في مرحلة ما بعد بيروت.. وكان هذا هو سبب مجيئه الى لندن التي كان يعتقد وتعتقد إدارة الصحيفة التي كان يعمل فيها أنها ستكون بالنسبة إليه أكثر أماناً من أي مكان آخر، حيث كل الأمكنة العربية في تلك الفترة لم تكن بعيدة عن فوهات كواتم الصوت المختلفة الألوان والأشكال والاتجاهات.
والآن وفي الذكرى العشرين لاغتيال ناجي العلي، فإن السؤال الذي لا يزال يبحث عن إجابة هو: من هي الجهة التي أرسلت ذلك المجرم الذي أنهى برصاصة كاتم صوت حياة فنان مبدع كان ظاهرة من غير الممكن ان تتكرر لأن الظروف التي أوجدتها لا يمكن أن تتكرر...؟!
كل الفصائل الفلسطينية التي انقلبت على ياسر عرفات، بعد انهيار جمهورية الفاكهاني وبعد الخروج من بيروت تحت ضغط الغزو الإسرائيلي في عام 1982، والتي حاربته في مناطق البقاع وفي مخيمي«البارد» و«البداوي» في طرابلس اللبنانية، اتهمته بأنه هو الذي أرسل القاتل الذي اغتال ناجي العلي برصاص ذلك المسدس المجرم المزود بكاتم للصوت في أحد شوارع العاصمة البريطانية لندن في مثل هذه الأيام قبل عشرين عاماً. لقد قيلت أشياء كثيرة حول هذه الجريمة التي كانت مفزعة بالفعل ولقد تعددت وتكاثرت الاتهامات، ولذلك فالآن وبعد كل هذه الأعوام فإنه لا بد من إيراد ما قيل في لقاء عشاء تم في منزل الصحافي الفلسطيني من الأرض المحتلة عام 1948 أديب أبو علوان الذي كان يقع على الحد الفاصل ما بين منطقة غربي «ويمبلدون» و«كنغستون» في جنوب غربي لندن ضم الشاعرين الفلسطينيين الكبيرين محمود درويش وسميح القاسم والفنان ناجي العلي وكنت أنا العبد الفقير الى الله أحد الحضور. في تلك الليلة تركز الحديث على أنه على ناجي العلي أن يغادر لندن ولو مؤقتاً حتى الى تونس، حيث كانت القيادة الفلسطينية لا تزال تتمركز هناك، وقد قيل مما قيل في ذلك اللقاء الذي كان قبل وقوع جريمة الاغتيال بنحو أسبوع أن الإسرائيليين الذين بدأوا يخشون من تنامي علاقات أوروبا مع الفلسطينيين قد يستغلون الأجواء غير الودية السائدة بينه، أي بين ناجي العلي، وياسر عرفات، ويقومون باغتيال هذا الفنان ليبرهنوا على أن منظمة التحرير لا تزال منظمة إرهابية.. وأن تطرفها دفعها لاغتيال هذه الشخصية الفلسطينية التي تحظى بكل هذه المكانة الفنية والاعتبارية الرفيعة.. والله أعلم!
Men's Shorts - Shop Men's Shorts Online