في الصحافة العربية يعتبر رسامو الكاريكاتير من أشد الناس تجريبا لمعنى الحرية، وهو معنى قد لا يتم تلمس عمقه وخطورته إلا بالنظر إلى ردود الأفعال التي تنجم اجتماعيا وثقافيا عن هذا الرسم أو ذاك، وعلى وجه الخصوص في المنطقة المحجوزة سلفا لصالح “السياسي” بمفهومه الضيق.
الكاريكاتير هو موقف وثقافة،وهو رؤية إلى العالم، رؤية ساخرة، لا شك في ذلك، لكنه يملك كل المقومات الضاربة التي هي بحوزة النص اللغوي، وأقوى “النصوص” الكاريكاتيرية، هي تلك التي تتخلى تماما عن عكاكيز اللغة وتذهب إلى مناكفة اللغة البصرية. ذكاء رسام الكاريكاتير يكمن في هذه النقطة بالذات، من خلال اقتناصه للمتخيل وللحياة العمومية للمجتمع، وأيضا من خلال التركيب البديع والمواكبة السريعة لطبقات الوعي وتنوع مصادر إنتاج النكتة لدى الجمهور العربي في حالة الصحف المتوجهة إلى القارئ العربي أو الصحف المحلية التي تتوجه إلى القارئ المحلي.
هناك سياق مخصوص للتلقي في كل بلد عربي على حدة، وإن كان الشكلاني الروسي فلاديمير بروب قد أشار في كتابه “مائة حكاية روسية” إلى الطابع المشترك لحكايات الشعوب، وإلى كونها تغرف من نفس المخيال للإنسان الكوني.
فما يشكل مصدرا من مصادر السخرية أو لنقل بلاغة الموقف الكاريكاتيري بالنسبة لمواطني دول الخليج لا يشكل بنفس القدر موقفا ساخرا في المشرق العربي أو في بلاد المغرب، ليس فقط على مستوى الملفوظ النصي الذي يرافق الرسم عادة ولكن أيضا على مستوى مكونات العمل أو الفضاء المكاني الذي يتحرك فيه.
وحين يعمد الكاريكاتريست في المغرب مثلا إلى لغة مصاحبة شديدة الجرأة و”منتفخة” بالنقد، نجد قلم الرصاص يرافق هذا التشنج “اللغوي” مما ينعكس على الخطوط وحدتها و”عصبيتها”، بينما يؤسس رسام الكاريكاتير عمله الفني مثلا في مصر على المشهد، لأن السياق التداولي في مصر يقوم على ركيزة اجتماعية قوية، وعلى حضور للحياة العامة في تقرير مصير الفرد.
وبصيغة أخرى تكون الشخصية الكاريكاتيرية الخليجية أقرب إلى الصورة الكارتونية منها إلى العمل الكاريكاتيري، مع ضيق أكبر لمساحات اللاعبين، مما يقلل الفرص أمام رسام الكاريكاتير لإطلاق العنان أكبر لقلمه كي “يتكلم” على سجيته.
ومع ذلك يمكن تسجيل التطور الذي عرفه الكاريكاتير في المنطقة الخليجية، وهذا راجع بالأساس إلى تنامي الوعي بأهمية هذا الجنس الفني في الوصول إلى أكبر الشرائح الاجتماعية، مع تزايد الحاجة بحكم ضرورات الواقع إلى مساحات أكبر من الحرية، يحتاجها فنان الكاريكاتير أكثر من غيره، لأن الخيارات المتاحة أمام قلم الرصاص قليلة بالمقارنة مع التاريخ البلاغي للغة.
من الجيد الإشارة في هذا المقام إلى الكاريكاتيرست “هارون” رسام “الخليج” الغراء، لاعتبارات متعددة من بينها أنه من الرسامين القلائل من أبناء الإمارات الذين يختصون في الشأن المحلي. تصل اعماله المنفذة احيانا إلى جرأة عالية وإلى أسلوب راق في تمرير الخطاب الكاريكاتيري دون أدنى تجريح وفي سياق من القبول الذي يدفع إلى الضحك من تحولات الحياة التي مخضت الفرد والمجتمع. وهي تكوينات لا تلتقطها إلا عين فنية على درجة عالية من الحساسية، ومن فهم عميق لسوسيولوجية النص الكاريكاتيري، لعل زميلنا هارون يفلح فيها كل يوم، مانحا فسحة للأمل، فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
Nike Air Jordan 11Lab4 Retro 4 Patent Leather