ينطلق فنان الكاريكاتير الفلسطيني الشاب والمشاغب محمد سباعنة من مقولة رائد الكاريكاتير الشهيد ناجي العلي بأن «مهمة الكاريكاتير ليست إعلامية مجردة، بل مهمة تحريضية وتبشيرية، تبشر بالأمل والمستقبل، وعليها واجب كسر حاجز الخوف بين الناس والسلطة». ومن هنا انطلق سباعنة يرسم لوحاته الأولى على جدران مدينة نابلس وحماماتها الشهيرة، ومن تلك الحمامات استوحى شخصياته الكاريكاتيرية الأولى: «أبو محمد» و «أبو سليم»، من واقع الشعب الفلسطيني وشخوصه الحقيقية، وهو أيضاً بذلك يتماهى مع فكرة ناجي العلي بأن «الصورة هي عناصر الكادحين والمقهورين والمطحونين، لأنهم هم الذين يدفعون كل شيء ثمناً لحياتهم».
يتحدث سباعنة لـ «العرب» عن بداياته الأولى مع الفن حيث حاز على أولى الجوائز في الرسم بدولة الكويت وعمره ستة سنوات، حيث ولد عام 1979، مستمراً بتلك الرحلة الشاقة مع الفن والشتات الفلسطيني، ليعود إلى الوطن ليكمل دراسته الجامعية. وكان للوضع المادي لعائلته الدافع في أن يعمل في موازاة دراسته.
يقول سباعنة: «كان للجوع والفقر الأثر في صياغة هذا للإبداع وسببا في وجوده كما هما سبب للثورة وأرضية خصبة لها، مارست الجوع والفقر، فكانت علاقتي بالطبقة الكادحة، علاقة شرعية جدا، فأنا ابن شرعي لهذه الطبقة، ابتداء من عائله فقيرة، انتقالا لحياة جامعية اختلط فيها العمل في المقاهي والفنادق ورسم البورتريه مع كوني طالبا جامعيا، لا أستطيع ولا أريد التنصل من هذا الإرث، لأن ما يخرج على أوراقي اليوم هو نتيجة ما مضى من تفاصيل صعبة ومضنية، ليس من السهل في مجتمعنا العربي أن تخلط ما بين حياتك الجامعية والعملية في آن واحد، فنظامنا التعليمي صارم، ووضعنا الاقتصادي صعب، فكان هناك صراع مر أنتج عنه هذا الإنسان الماثل أمامك».
ويتذكر سباعنة ضاحكاً عندما وبخه مسؤوله عن العمل في أحد الفنادق في مدينة نابلس لأنه كان يرسم على المذكرات الداخلية وفواتير الفندق. وهو –كما يضيف سباعنة- ما خلق مني رسام كاريكاتير وما أعطاني القدرة على التعبير وقدم لي لغة أدافع بها عن هذه الطبقة الكادحة المعدمة، وأتذكر جيدا في أيام حصار الجدار الواقي حين اجتاح الجيش الإسرائيلي مدينة نابلس كيف قضيت أيام منع التجوال في رسم الكاريكاتيرات التي تعبر عن تلك المرحلة، وأذكر أنه كلما اقتربت آليات الاحتلال من منزلي كان أصدقائي يخبؤون أجهزتهم النقالة ونقودهم أما أنا فكنت أخبئ لوحاتي باعتبارها أغلى ما كنت أملك، اعتبرت ما كنت أخطّ على الأوراق هو ما كنت أستطيع أن أناصر به من يسقطون من شهداء ومن يحملون بنادقهم، كان هذا كل ما بوسعي أن أصرخ داخل هذه المساحة البيضاء كي تستفيض غضبا، فاللوحة الكاريكاتيرية اختزال لفكره داخل لون يضاجع بياض المساحة لينجب منه ثورة.
وحول سؤاله: برأيك هل استطاع فن الكاريكاتير أن يفرض نفسه عربياً وفلسطينياً، وأن يؤسس لنفسه أسوة ببقية الفنون مدارس خاصة؟
يقول سباعنة: تجربة الكاريكاتير العربي تجربة غنية جدا، وتسير ضمن خطين متوازيين، الخط الأول الذي أثبت نجاحه واستمراريته هو الخط النضالي في العمل الكاريكاتيري ابتداء من الشهيد ناجي العلي انتهاء بمجموعه رائعة من الرسامين العرب الذين ينشرون الآن في صحفنا العربية، إلا أن البعض من رسامي الكاريكاتير العرب حوّل فن الكاريكاتير إلى إعلان ملون في الصحيفة اليومية، كإعلان تجاري، وللأسف فتجد اللوحة خاليه من القضية والتكنيك الفني والفكرة، ولكن الحمد لله فالمتلقي العربي متلق واعٍ مثقف، ومنشد لقضايا أمته وشعبه.
أما من جهة أخرى وللأسف هناك بعض الرسامين يصلي بأعماله لحزبه أو فئته أو قبيلته فتجد العمل مرسوم « قطاع خاص»، أو تحت عنوان ما «يطلبه المشاهدون»، والبعض الآخر يقدم لصحيفته تعهدا بعدم مخالفته لرأيها أو خطها السياسي، وأعتقد أن هؤلاء لا تصلح أعمالهم إلا لنشرها في صفحة الوفيات لا أكثر في أي صحيفة، وللأسف فهم موجودون على الساحة العربية والفلسطينية.
إذاً هل تعتبر أن مهمة الكاريكاتير ليست فقط أن يكون ترجمة للنكتة الشفوية وتحويلها لصورة؟
أؤكد لك على أن الكاريكاتير ليس مشهدا ساخرا في الصحيفة فقط وليس نكته تعتمد على الخيال الكاذب، ولم يوجد كي تتعالى الضحكات عند مشاهدته، لا أنكر أن بعض الأعمال تثير المشاهد أو بعضها يثير ضحكته، ولكن حتى هذا الجزء منها يجب أن يحمل رسالة وفكرة، وكما أن بعضها يحمل بداخله صفعة لكل من يتاجر أو يبيع قضايا أمته وشعبه على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، وبعض الأعمال تثير الرغبة بالبكاء، والبعض الأخر يدخلك في حالة من التناقض بين رغبتك بالبكاء وتمسكك بهذه الضحكة المهزومة.
عني أنا أرفض أن ترتبط أعمالي بالباحث عن ضحكات غبية، وأرفض أن تنتهي حدودها بمساحة الورقة وألوان العمل، يجب أن يحمل العمل الكاريكاتيري -حتى الساخر والمضحك منه- قنبلة موقوتة تتسلل لنبض المتلقي وتفرض عليه رؤيتها، يجب أن تتحول حتى ضحكات المتلقي لرفض على الأرض لا في ذاته فقط، فنجاح أي عمل وليس بالضرورة الكاريكاتيري منه هو عبارة عن ثورة تغير ما على الأرض من وقائع، وهنا يثبت الفنان أو الكاتب نجاحه.
كيف تقيم مساحة الحرية الكاريكاتيرية لدينا في فلسطين؟
في فلسطين لدينا رقابه «فل أوبشن»، لدينا رقابة إسرائيلية، ورقابة السلطة الفلسطينية التي أؤكد عدم صرامتها أو حدتها، وكذلك رقابة الحزب وهي الأصعب، فهي تُفرض عليك من خلال جمهوره إلى جانب منابره الإعلامية، فتجد عند انتقادك لممارسات أي حزب سياسي أن الرفض والانتقاد الذي هو بالضرورة غير موضوعي يوجه إليك من خلال جمهوره، وقلت غير موضوعي لأن من حق أي رسام أو كاتب انتقاد أي طرف سياسي في وطنه ضمن المقبول.
وجهت لي انتقادات عدة من خلال جماهير الأحزاب الفلسطينية المتعددة ومن خلال منابرها الإعلامية، لكن تضحك عندما تجد من انتقدك البارحة يحمل اليوم لوحة لك ويستشهد بها عند انتقادك لنقيضه.
هل تشعر بالرضا تجاه ما وصلت له مع الكاريكاتير؟
الرضا هو مقتل لأي مبدع، في اللحظة التي سأشعر بها بالرضا سأفقد القدرة على التطور، وأنا أؤمن بأن علينا أن ننتصر ولكن علينا ألا نفرح بنصرنا، بدأت أرسم في ظروف صعبه، رسمت على فواتير الأماكن التي عملت بها، رسمت على جدران جامعة النجاح، نشرت رسومي بدون مقابل مادي، وفي فترات أخرى كنت أحمل الصحف التي أنشر بها أوزعها بنفسي، بدأت أُعرف كفلسطيني عربي، رسام مشاغب ملتزم بقضايا أمتي وشعبي، بدأت أعمالي تغزو الصحف العربية بشكل ضئيل نسبيا، أحاول إعادة شكل من أشكال النضال الفكري مع مجموعه صغيرة من الفنانين العرب، وأقول «أحاول» لأنه لست أنا من يؤكد مقدرتي على ذلك، يرضيني ما يصلني من مديح للوحاتي، لكن علي أن أتابع علي أن أجد منبراً لاحتضان أعمالي بشكل أكبر وأوسع، ففرص النشر في فلسطين ضئيلة، وبعد منعي النشر في صحف عربية في الداخل الفلسطيني من قبل الإسرائيليين ضاقت فرص النشر أكثر.
وماذا عن قصة منعك من النشر في الداخل الفلسطيني؟
تحدثت تلك الأعمال عن العملية السلمية وخطة خارطة الطريق، فرسمت خارطة فلسطين وبندقية، كتبت أسفل الرسمة الخريطة والطريق، فهذا العمل بيّن أنه يتحدث ويشير إلى فلسطين التاريخية، بعد نشر هذا العمل فرضت الرقابة الإسرائيلية على أعمالي المنشورة في الداخل الفلسطيني مع أحد الصحف التي كنت أعمل معها حظراً.
أين يحصل التلاقي بين الفكرة والريشة؟
حقيقة أن لا وقت أو زمان أو مكان لهذا العمل، هو يأتيك كالزلزال دون سابق إنذار، فلا هناك فترة حمل لهذا العمل، هو عبارة عن تفاعل الحدث أو الوجع مع إحساس الفنان وعقله، فهو يرتكز على الحدث العقل وإحساس الفنان لينبت هذا العمل عبر خطوطه وألوانه، لا يعتمد على قرار ذاتي من الفنان، فأنت لا تبحث عن العمل الكاريكاتيري، هو من يبحث عنك وهو من يفرض نفسه على خطوطك.
هل سبق أن خطرت ببالك فكرة وهممت برسمها وتراجعت؟ ولماذا؟
تستغرب إذا قلت لك إنه أحيانا أبتعد عن رسم فكرة لظني أنها يمكن أن تكون مكررة، ولا تحمل الجديد، وعندما أتجاوز هذه الاعتقادات وأرسمها أجدها تحقق نجاحا لم أكن أتوقعه، لهذا بدأت محاولات في رسم كل ما يجول ببالي دون التردد وأترك المجال لأصدقائي والمتابعين أن يقرروا، فالسبب الوحيد الذي يمكن أن يمنعني رسم أية فكرة هو خوفي من عدم تأثيرها أو أن تكون مكررة أو مبتذله أو أن تكون عمل مزاود فقط أو أن أتجنى على أحدهم شخصيا أو تنظيما، فقط لا أسباب أخرى.
«حالة شغب» اسم معرضك الأخير في مدينة حيفا، لماذا حمل الشغب عنوانا له، ومن أين انطلق؟
شغب، لأن الكاريكاتير حالة من الشغب والتمرد على الواقع الذي نعيشه، هذه القضية بحاجة إلى شغب يخرج من الشارع البسيط، شغب الشارع الجائع للرغيف والأرض والحرية، انطلقت بهذا المسمى لأعلن حالة الرفض للصراع الفلسطيني-الفلسطيني أولا، وللقتل الإسرائيلي للإنسان الفلسطيني، وتجسيداً للتاريخ وللحاضر، ولحلمنا في المستقبل، شغب يحرر الجسد العربي، من حالة الصمت أو الموت، الذي يتسلل مرتديا رداء الجوع للشارع، فيتحول الجائع من ثائر متمرد، إلى شخص يبحث عن قوته، ويختصر حلمه في مساحة رغيف عصي البلوغ، وإن حضر يمتطي مذاقه المرّ بذل وصوله.
بدأ المعرض بشكل هامشي في جنين في الجامعة العربية الأميركية، وأعتبر أن انطلاقته الحقيقية كانت من قلب حصار مدينة نابلس، عندما أقيم في جامعة النجاح الوطنية، انتقل بعدها إلى مدينة رام الله، في مركز خليل السكاكيني، وكان إهداءً لروح الشهيد ناجي العلي حيث أقيم في الذكرى العشرين لاستشهاده، وأخيرا في مدينة حيفا بالتعاون مع عدد من الأخوة الصحافيين والكتاب، تحت عنوان «حالة شغب 4–عائد إلى حيفا»، كما يجري التحضير وبالتعاون مع عدد من الأصدقاء لإقامة المعرض في العاصمة الأردنية عمان.
عندما نقول فنان، يعني إنسان مليء بالأمل ومسكون بالخيال والطموح، والأكثر قدرة على التعبير عما في داخله، فلو طُلب منك أن ترسم «طموحك» فماذا كنت سترسم أو كيف كنت سترسمه؟
هذا أصعب ما يمكنني الإجابة عنه، فطموحي يسافر بين محطات عده، فابتسامة طفل في وطني، تبحث عن أسباب لها، إن كان رغيفا أو أرضا أو حلما، فهذا الرغيف يتقاسمه أصحاب الكروش ليبحث ذاك الطفل عن فتات يسد به رمقه فهذا الرغيف العصي البلوغ يرتدي ثوب الذل ولا يأتي إلا في صمت، وإن كان أرضاً، فهذه الأرض تبحث عن بندقية تنمو في حالة جوع، فحلمي بين كل هذا يبحث عن حلم، واتساعه على مساحة الأرض العربية ينكر هذا الحلم أن تكون له حدود، أو لهجة، وهو يعلم جيدا أن فلسطينه لن يعود إلا بهم جميعا، بهم المنتشرون على الأرض العربية.
أنا أحلم برغيف حر لكل الجياع فقضيتنا ليست أرضا، فقط علينا جميعا أن نعلم أن الأرض لا يحررها عبيد، وفاقد الشيء لا يعطيه، علينا أن نحرر نبضنا قبل تحريرنا أرضنا، وأنا لا أخاطب الفلسطينيين فقط ففلسطين دين برقبة كل عربي.
air max 90 essential black