عند بدايات القرن التاسع عشر، حاول المستعمر البريطاني، كما الروسي، نهب الثروات الطبيعية الإيرانية. فعمد إلى استخدام كل الأساليب الممكنة لتحويل هذا البلد إلى مستعمرة تابعة لسيطرته. احتلت الإمبراطورية الروسية جزءاً كبيراً من أغنى المقاطعات وأخصبها في إيران، ما أدّى إلى تكريس انفصال تدريجي في المصير التاريخي الذي جمع القاطنين في تلك المقاطعات بسائر الشعب الإيراني. أطماع الحكم القيصري الروسي بهذه المناطق الإيرانية الغنية كانت قديمة، الأمر الذي حدا بالحكم القيصري للمسارعة إلى نشر مؤسساته الحكومية فيها، إلى مستوى باتت فيه المدن المهمة في هذه المقاطعات، عند نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، من أهم المدن الروسية وأغناها. وبعد أن أسقط في أيدي سكان تلك الأقاليم، وفقدوا الأمل بأي مساعدة أو عون من الملوك القاجاريين «الخونة»، استسلموا للحكم الروسي الذي كان أكثر خيانة ودهاءً من الأسرة القاجارية الحاكمة في إيران.
إبان الفترة التي هيمن فيها الحكم القيصري على أذربيجان، خيمت ظروف قاسية على الحياة السياسية والثقافية في ذلك الإقليم. فقد استبد الروس بحكمهم، وتعاملوا مع الشعب بازدراء وعنصرية، تمثلت بتبني برامج تثقيفية تغرس في ذهن الشعب الروسي روح الاستعلاء، وتنعكس بالاحتقار للشعوب غير الروسية، وتصنّفهم رسمياً باعتبارهم «غرباء». وبنتيجة هذه السياسات، نشبت حركات عصيان وانتفاضات عدّة ضد الحكم القيصري الروسي في أذربيجان والكثير من الأماكن الأخرى، وبأساليب شتّى.
بدافع من أهدافه الاستعمارية، ولاستغلال أكبر قدر ممكن من الموارد القومية والبشرية، قام الحكم الروسي بتوسيع حركته الصناعية ومدّها باتجاه مختلف مدن أذربيجان، وخصوصاً باكو. أدى هذا الاتساع الصناعي لتدفق اليد العاملة من القرى باتجاه المدن. كما أن جماعات أخرى من الإيرانيين، وخاصة من إقليم أذربيجان في إيران، انخرطت في هذه الهجرة.
أعداد هائلة من الإيرانيين قدموا إلى هذه المدن بخلفياتهم الثقافية والسياسية، ما أدى إلى زيادة مستوى الوعي تدريجاً لدى سكان هذه المدن، ودفعهم لتأسيس الحركات ضد الحكم الاستبدادي للقيصرية الروسية.
على الرغم من هزيمة ثورة 1905، فقد أدت دوراً إيجابياً في إجبار النظام الاستبدادي القيصري على منح السكان بعض التسهيلات، بهذا، ونتيجةً للجو المحيط، تأسست مجموعات سعت لتنظيم الناس بأحزاب سياسية مناوئة للحكم الروسي. وجدير بالذكر أن الحركة الدستورية التي عمّت المجتمع الإيراني آنذاك، كان لها دورها في التأثير على الثورة الروسية، بسبب الصراع الناشب بين الوطنيين الإيرانيين، وقوات الحكم القيصري.
كانت الدعاية السياسية لها ضرورتها في ذلك الحين، فأطلق الكثير من الصحف، التي دعت السكان للانخراط في الأحزاب، التي تجمّعت بدورها تحت راية المنظمات الديموقراطية الاشتراكية الروسية، وهذه الأمور انعكست بخلق أحداث وحالات أثرت على الداخل والخارج الإيراني على السواء.
أسبوعيّة الملّا ناصر الدين
تاريخ الصحافة في إقليم أذربيجان، الذي يغطي جزءاً من روسيا وجزءاً كبيراً من شمال إيران، فتح عهده منذ العقد السابع من القرن التاسع عشر، وأضحت خلال فترة بسيطة نسبياً ذات ثقل ووزن على الأصعدة السياسية والاجتماعية والأدبية. وبفعل تأثيرات ثورة 1905، عمد الحكم القيصري الروسي لإطلاق بيان مراءٍ في الثامن عشر من آذار عام 1908، يبدي فيه مستوى التسامح المنتشر، ودلّل عليه بحرية الصحافة، الأمر الذي أثر بظهور الكثير من المنشورات والصحف الناطقة باسم فصائل متعددة على الساحة السياسية والثقافية.
بعد ذلك، عمدت مجموعات تابعة للحزب الديموقراطي الاشتراكي إلى نشر الصحف، والمنشورات، والوثائق علانية، بعد أن كانت تنشر بسرية. ومن أهم الصحف التي نشرت في أذربيجان، باللغة الأذرية، إبان تلك الفترة: «همّت»، «دافات»، «تكامل»، «فويوزات»، «حياة»، «شالالا» و«إرشاد». نُشرت الصحف والمجلات الساخرة في الآن عينه، وقد اتخذت هذه المجلات أسلوب الإضحاك والنقد الساخر، بالاعتماد على محاكاة الجذور الثقافية لسكان تلك المنطقة. انعكس هذا على تلك الصحف بالمزيد من الانتشار والاتساع بين المواطنين. ومن أبرز هذه المجلات: «ناصر الدين»، «زنبور»، «توتي لاك لاك»، «بابي عمر»، «ماشال»، «بهلول» وغيرها. صحيفة «ناصر الدين» كانت أبرزهم، وفرضت نمطها على الجميع.
ارتبط اسم المجلة، بشخصية أسطورية ذات طابع يتوازي فيه الصدق مع خفة الظل وحدة الذهن، ولها شهرتها الذائعة لدى الجمهور، هو «الملا ناصر الدين». اعتمدت المجلة نفس أسلوب السرد الأسطوري المستقى من الحكايات الشعبية للملا ناصر الدين في طرح وجهة نظرها بإزاء الأحداث والوقائع السياسية والاجتماعية بطريقة الرسوم الكاريكاتيرية، والقصص الساخرة.
نشر العدد الأول من مجلة «ناصر الدين» يوم السابع من نيسان 1906، برئاسة تحرير جليل محمد غولي زاده، في تبليسي مركز جورجيا. بالاعتماد على بعض المصادر، فإن ولادة غولي زاده كانت في نخجفان، وبالاعتماد على أخرى فقد كانت في قوقازيا. كان متمكناً من اللغات الفارسية، الآذرية والروسية. عند بلوغه الرابعة عشرة، دخل دار المعلمين في مدينة قوري في جورجيا، وبعد إنهائه الدراسة أمضى بضع سنوات أستاذاً في بعض المدارس المحلية. انتقل إلى تبليسي عام 1904، وعمل محرراً في صحيفة «شارجا إي روس». بعد منع الصحيفة عام 1905، تولى المحرر الشاب مسؤولية تحريرها وطباعتها، لكن تحت اسم مختلف هو «مطبعة جيراف». لكن بسبب الرقابة الصارمة التي فرضها الحكم القيصري، لم تأخذ هذه الجريدة فرصتها بالصدور. استمرت الحال حتى 1906، حيث أثرت الثورة الدستورية بخلق فرص تواصل بين غولي زاده وفيج أفندي، أدت إلى إطلاق أسبوعية «ناصر الدين»، اجتمع فيها عدد من أهم الرسامين والكتّاب، من أمثال: روتر، شارلمنك، عظيم عظيم زاده، بهزاد، موسايف، يوسف وزير جينوسكي، إبراهيم زاده، وغيرهم. اختار غولي زاده الرسوم الكرتونية الواقعية والساخرة محاكياً فيها الرسوم المنتشرة في أوروبا آنذاك. على الرغم من أن أسبوعية غولي زاده تأثرت بالمنشورات التركية والقوقازية بنسبة كبيرة، أضحت من خلال أسياد الرسم الكاريكاتيري من مثل روتر وشارملنك، والكتّاب الكبار من مثل ميرزا علي أكبر طاهر زاده (المعروف باسم صابر)، وعبد الرحيم هاغفردوف، ومحمد سعيد أوردوباري، من طليعة الصحف السياسية الساخرة في ذلك الحين. ومن الضرورة بمكان اعتبار هذه الأسبوعية نقطة تحول كبيرة في تطور الكاريكاتير والأدب الساخر في اللغات التركية والآذرية.
طبعت أسبوعية «الملا ناصر الدين» حجرياً، ونشرت بداية في تبليسي ما بين عامي 1906 و1917، بعدها في تبريز منذ 1921 حتى 1922، وفي باكو من 1922 حتى 1931. نشرت رسومها ملونة وبالأسود والأبيض. برز عنوانها «الملا ناصر الدين» باللغة العربية على الغلاف، يعلو نفس الاسم باللغة الروسية. كما طبع التاريخ في أعلى صفحة الغلاف تبعاً للروزنامة الهجرية والميلادية. ودوّن عدد النسخة وسعرها تحت العنوان باللغتين العربية والروسية. لغتها المعتمدة كانت الآذرية، مع وجود عمود أو صفحة بالفارسية في بعض الأحيان. وكانت تضم ثماني صفحات بقياس 24ـــــ32 سنتم. طبع منها في عددها الأول 1000 نسخة، وفي عددها الثاني 2000، بعدها باتت تطبع 5000 نسخة أسبوعياً.
انصب اهتمام أسبوعية «الملا ناصر الدين» على إبراز نفسها في طليعة الصحف الدافعة باتجاه الدعوة للتحرر، وركزت نقدها الصارم على الديكتاتورية بكل صورها وأشكالها، واستندت بأهدافها إلى سياسات الحزب الديموقراطي الاشتراكي.
طبع رسم كاريكاتير بريشة شيلنغ على الغلاف في العدد الأول، يصوّر العالم الإسلامي يستيقظ من سباته، فيما الملا ناصر الدين ينظر إليه متثائباً. قدم الملا ناصر الدين بهيئة رجل عجوز ذي لحية بيضاء، بتصوير يحاكي شكل المسلمين آنذاك.
لعب كل من الألمانيي الأصل روتر وشيلنغ، دوراً بارزاً في إبراز كاريكاتير الملا ناصر الدين للجمهور. في البداية وبسبب قلة درايتهما بعادات المجتمع الإيراني وتقاليده، لم يتمكنا من شد انتباه الجمهور بالقدر الذي كان متوقعاً، ما دفعهما للقيام بجولة كبيرة في المدن والقرى الإيرانية، للاطلاع على الطبيعة الاجتماعية والثقافية التي تخيم على تلك المناطق، ونتج عن ذلك رسوم تحاكي تلك الطبيعة. ومع مرور الوقت ابتدأت رسومهم تذهب بعيداً في الانتقاد، إلى الحد الذي باتت توصف فيه بالهجومية الصارخة، الأمر الذي دفع رجال الدين في تلك الآونة لمعارضة هذه المجلة ومقاطعتها.
روتر، بسبب نمطه الواقعي بالكاريكاتير، ومستوى اقتناعه بالأهمية البصرية والنفسية لهذا الفن، أظهر اهتماماً بالغاً بإخراج الأنواع والأشكال. كان في حالة بحث دائم عن المواضيع الناقدة والساخرة، ورسم لوحاته بعناية بالغة أظهرت أدق التفاصيل. أمضى ساعات طويلة في إبراز الإضاءة والظلال للتعبير عن العمق والصدى في اللوحة. هذا ما جعل لوحاته عصية على النسخ والتقليد، وأدى إلى عدم تبني أسلوبه في التمرين على الرسم.
انتقل غولي زاده عام 1920 إلى تبريز، واستقر بها لمدة سنة، وفي عام 1921 نشر عدة أعداد من جريدته في هذه المدينة، كان مقر جريدته في مطبعة عُمد، شاغرد إستاد بازار، بيت الأمير نصرة السلطان.
وضع جليل غولي زاده الفكرة الأولية لصور ناصر الدين، ورسمها روتر ككاريكاتير صامت. وجدت رسوم روتر صداها لدى جمهور المثقفين والأميين على السواء وبسبب ميلهم للواقعية. وكان للوحات بما تؤديه من ربط قصده الفنان مع الأحداث الجارية بطريقة ناقدة وساخرة، حفاوتها لدى المتلقين. هذا فيما الذي تميز فيه أسلوب شيلنغ برسم الخطوط الكاريكاتيرية البسيطة والمبدعة، متفادياً التفاصيل غير الضرورية في اللوحة. أدى هذا دوراً كبيراً في التأثير على الفنانين الإيرانيين بحيث تبنّى الكثير منهم أسلوبه، إلى الحد الذي قد لا يجد المرء أي اختلاف يذكر من حيث التقنية المتبعة في إخراج اللوحة الكاريكاتيرية بين رسومه ورسوم الإيرانيين المتأثرين به. أسلوب شلنغ المعتمد على البساطة والوضوح بالعمل، كان مختلفاً عن أسلوب روتر الواقعي بالرسم، على ما هو واضح.
أبدى روتر وشلنغ الرسامان الأساسيان في أسبوعية «الملا ناصر الدين»، تفهماً منقطع النظير للقضايا الاجتماعية والسياسية في تلك البلاد، الأمر الذي انعكس على هذه المجلة بتصنيفها الأفضل بين أقرانها من المجلات والصحف الكاريكاتيرية الساخرة.
أظهرت الوثائق الباقية من المجلة، أن عدد الرسامين فيها كان ثمانية من جنسيات مختلفة، وهم: روتر، شارملنك (شلنغ)، عظيم عظيم زاده، غيلادزه، يوسف وزير، موسايف، إبراهيم زاده، وغرينوفسكي.
استمر روتر وشلنغ بالعمل للمجلة أكثر من غيرهما، تولى بعدهما عظيم عظيم زاده ريادة فن الكاريكاتير في هذه المجلة.
Shop Nike SB Skateboarding Shoes, Apparel, Accessories at Renarts