ملف جريدة الأخبار اللبنانية في ذكرى إغتيال ناجي

قيم هذا الموضوع: 
لا يوجد تقييمات
المصدر: 
جريدة الاخبار - لبنان
الكاتب: 
بيار أبي صعب ، محمد خير ، خليل صويلح و

ناجي العلي آثار أقدام حافية على الطريق الطويل

20 سنة على اغتيال والد حنظلة في لندن

بيار أبي صعب

في مثل هذا اليوم، انكسرت الريشة التي نكأت الجراح، وحركت وجدان الشارع العربي. عودة إلى تلك المسيرة القصيرة والصاخبة التي جعلت من عامل بساتين الليمون أشهر فناني

الكاريكاتور العرب، وأكثرهم قسوة وشجاعة...

في مقبرة «بروك وود» الإسلاميّة في لندن، هناك قبر بلا شاهدة، يحمل الرقم ٢٣٠١٩٠. تعرفه من العلم الفلسطيني. هنا يرقد ناجي العلي بعيداً عن عين الحلوة... كان الرجل يسير إلى قدره بهدوء وصفاء مخيف. وحين وجّهت إليه فوهة المسدس في حي تشلسي وسط لندن، وجد معه رسمان أحدهما يحدس بموته الوشيك. الجريمة هي نقطة الذروة في مأساة بدأت عام ١٩٤٨، حين هجّر مع عائلته، وأزيلت قريته من الخريطة. تقع «الشجرة» شمالي فلسطين، بين طبريا والناصرة. في مكان غير بعيد أبصر النور عيسى الناصري، وتحت إحدى شجرات القرية استظل، وفي البحيرة المجاورة مشى على الماء... ومن هنا سيبدأ ناجي درب الجلجلة. تقول الأسطورة إنّه كان في العاشرة عند النكبة. ولعلّ الزمن سيتوقف عند هذا العمر. عمر حنظلة صنوه وقرينه.

مخيّم عين الحلوة سيختصر الوطن، بل العالم بالنسبة إليه. سيرته معروفة. من مدرسة «اتحاد الكنائس المسيحيّة» حيث توقفت دراسته عند “السرتيفيكا”، إلى حقول الحمضيّات حيث صار عاملاً مياوماً... قبل أن يمضي إلى مدرسة الرهبان البيض في القبّة (شمالي لبنان) ليصبح «ميكانيكيّاً»، ويذهب الى السعوديّة (١٩٥٧). هذا هو نصيبه من التحصيل العلمي... يضاف إليه محاولة لدراسة الرسم في «الأكاديميّة اللبنانيّة» مطلع الستينات. محاولة عابرة، لأن نشاطاته السياسة كانت تقوده إلى السجن. يروي أنّه اتخذ جدران اعتقاله داخل ثكنات الجيش، فضاءً لرسومه، كما كان يفعل على جدران المخيّم، مدرسته الحقيقية. من أزقّته سينظر طوال حياته إلى العالم. كأنّنا به كان دائم الحرص على توريط نفسه، مخافة أن يغريه الترف الاستهلاكي... فيخون طبقته.

وفي المخيّم سيكتشفه غسان كنفاني عام ١٩٦١، فاتحاً أمامه آفاقاً جديدة. حين سافر إلى الكويت بعدها بعامين، كان في نيته أن يجمع فلوساً ليتابع دراسة الفن في روما أو القاهرة، كما روى للأديبة رضوى عاشور عام ١٩٨٤. لكنّه سيعلق نهائيّاً في فخ الصحافة. في مجلّة «الطليعة» التي كانت محدودة الانتشار، تمكّن من اختبار رسومه المغايرة... معلناً القطيعة، كما يلاحظ محيي الدين اللباد، مع مدرسة «صباح الخير» المصريّة التي كانت تتزعّم الكاريكاتور العربي.

في جريدة «السياسة» الكويتيّة ابتداء من ١٩٦٨، صار الكاريكاتور وسيلة تعبيره الوحيدة. أما اللوحة فستبقى، مثل فلسطين، حلمه المؤجّل. هنا أطلّ «حنظلة» للمرّة الأولى. اعتبر ناجي أن ولادته الرسميّة هي يوم النكسة. وقدّمه بصفته الضمير. الطوطم والبوصلة إذا شئنا. ناجي الذي لم يكبر بعد النكبة، والقهر الفلسطيني صار مجازاً لقهر الكادحين والمسحوقين. والولد الشقي راح كل صباح ينتهرنا على طريقة فيلهالم رايخ: «استمع أيها الرجل الصغير».

حين عاد ناجي إلى بيروت عشيّة الحرب الأهليّة، ليعمل في جريدة «السفير»، كان أسلوبه قد نضج وتبلور، وبات مهيأً لدخول أتون الصراع الطاحن ومعادلاته الصعبة... وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي (١٩٨٢)، وما تلاه من خروج المقاومة. يومها رسم الفدائي عائداً إلى بيروت على شكل بقع مرقطة طافية على الماء. ذهب ناجي العلي إلى الأسلبة والتكثيف. خطوط قليلة تكفي، ملامح أولية، وعلامات فارقة: المؤخّرات العارية للحكام الخونة المتخمين، والرقع على قميص المواطن العربي، الكوفيّة وبرميل النفط، البندقيّة والريشة الدامعة، وأشياء كثيرة أخرى... فاطمة المتمرّدة هي «الأم كوراج»، زوجها ابن الشعب بثيابه الرثّة وأطرافه الغليظة وشاربيه وانكساره. وفي المقابل، أصحاب الكروش التي تذكر برسوم جورج غروس في برلين الثلاثينات. رسم الحاكم العربي يربت على كتف الجندي الإسرائيلي: «لقد اغتصبت فلسطين، الآن عليك أن تزوجها»! رسم الكاتب العربي رافعاً يديه تحت تهديد السلاح، ومسدداً إصبعه الوسطى على شكل قلم إلى جنود الأنظمة القمعيّة. رسم آثار الأقدام الحافية على الطريق الطويل، ورسم حنظلة ينزل العلم الإسرائيلي ويعلّق مكانه العلم اللبناني.

من أجل إيصال الفكرة، ابتكر ما سمّاه اللباد «المفردات المرسومة». وأوجد المعادلات البصريّة، القادرة على مخاطبة وعي الناس، والتأثير في مشاعرهم. لعب على العلاقة بين البياض والسواد والظلال الرمادية، أحياناً كان يكتب جملاً طويلة في المستطيل الأبيض، وأحياناً أخرى يترك للخطوط أن تعبّر عن سخرية الموقف. كان ينتزع من قرّائه آهات متحسّرة، وكان يستفزّهم ويحرّضهم. ويبدو الفنان السوري يوسف عبدلكي محقاً حين يحاول تفسير نجاح ناجي العلي الذي افتقر أسلوبه إلى المتانة الفنية: لقد كان ببساطة الناطق باسم الشارع العربي من المحيط إلى الخليج.

حين نستعيد اليوم رسومه، نكتشف كم كانت قسوته المرّة صائبة. في حين رأى بعضهم في الحدّة التي طبعت مرحلته الأخيرة، غلوّاً وتطرفاً، أو رومانسية عمياء قاصرة عن استيعاب الواقعيّة السياسية! ناجي العلي يمكن اختصاره إلى خياراته الراديكاليّة. إنّه جان بول مارا الفلسطيني! وفي السنوات الأخيرة بعد خروجه من لبنان، ازداد عنفه إزاء القيادة الفلسطينية. انتهر محمود درويش في رسم قاسٍ («محمود خيبتنا الأخيرة»)، وكان رسمه الشهير عن رشيدة مهران الذي أغضب، كما يقال، الرئيس عرفات. في أيامه الأخيرة تلقّى ضغوطاً وتهديدات كثيرة. بعد سقوطه كتب محمود درويش نصاً مؤثراً في «اليوم السابع» من باريس، يقول فيه حبّه لناجي، رغم «لحظة الاختلاف العائلي العابرة»: «لم يكن سهلاً أن أشرح له أن تدخلنا في أزمة الوعي الإسرائيلي ليس تخلياً عن شيء مقدّس (...) إنها محاولة لاختراق جبهة الأعداء».

يبقى سؤال موجع: من القاتل؟ قبل 5 سنوات كتب يوسف عبدلكي في «العربي» مشيراً إلى الأسماء الثلاثة التي وردت في تحقيقات الأمن البريطاني حول الجريمة: بشارة سمارة عميل موساد كان على علم بالعمليّة: استردّته إسرائيل. إسماعيل حسن صوّان، عميل للموساد اخترق «القوة ١٧» الفلسطينية، حوكم لحيازته أسلحة فقط. أما عبد الرحيم مصطفى، مطلق النار المفترض، فاختفى بين مكاتب منظمة التحرير... وسط صمت أشبه بالتواطؤ من جانب الأطراف البريطانيّة والفلسطينية والإسرائيلية. كان للجميع مصلحة في كسر ريشة ناجي. لكن من يقتل حنظلة، من يمحو آثار الأقدام الحافية عن الطريق الطويل؟

عند الخامسة والربع من بعد ظهر الأربعاء 22 تموز/ يوليو 1987، ترجل ناجي العلي من سيارته وراح يعبر شارع ايفز في وسط لندن حيث تقع مكاتب «القبس ـــــ الدولية». من النافذة لمح أحد زملائه المشهد. كل شيء تم بسرعة. لحظات وكان ناجي ملقى على الأرض وسط بقعة من الدم، بيده اليمني مفاتيح سيارته ويتأبط تحت ذراعه اليسرى رسوم يومه. وشوهد شاب شعره أسود كثيف يرتدي سترة جينز لونها أزرق يلوذ بالفرار.

نقل ناجي في حالة غيبوبة إلى غرفة العناية الفائقة في مستشفى سانت ستيفنز. وفي اليوم التالي نقل إلى مستشفى تشارنغ كروس، حيث بقي على هذه الحال حتى انطفائه في ٢٩ آب/ أغسطس.

سيرة

«ولدت حيث ولد المسيح، في قرية الشجرة بالجليل الشمالي» كان يردد ناجي العلي. بعد النكبة انتقل إلى مخيم عين الحلوة في لبنان... نال شهادة الإعدادية، ولم يداوم في الأكاديمية اللبنانية للرسم إلا شهراً، إذ أمضى وقته في السجون. اكتشفه غسان كنفاني ونشر أحد رسومه في «الحريّة». سافر عام 1963 إلى الكويت ليعمل في مجلة «الطليعة»، ثم انتقل إلى جريدة «السياسة». وهنا سيولد حنظلة ذو العشر سنوات «الذي لن يكبر إلا عند عودته إلى فلسطين». في عام ١٩٧٤عاد إلى بيروت ليلتحق بجريدة «السفير» حتى 1983. بعدها هاجر إلى الكويت، ليعمل في جريدة «القبس»، لكنّه أبعد مجدداً إلى لندن عام ١٩٨٥ بسبب نقده الحاد للأنظمة العربية والقيادة الفلسطينية.

في بريطانيا عمل في الطبعة الدولية من «القبس»، ويمارس نقده الذي لا يرحم أحداً حتى اغتياله صيف ١٩٨٧. أصدر ثلاثة كتب (1976، 1983، 1985) ضمت رسومه المختارة. وكان يتهيأ لإصدار كتاب رابع، لكنّ رصاص القتلة حال دون ذلك. انتخب رئيساً لرابطة الكاريكاتور العرب عام 1979. وفي 1988، منحه الاتحــاد الـدولي لناشري الصحف في باريس جائزة «قلم الحرية الذهبي».

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

الرجل الذي «شتم مصر»!

محمد خير

كان ناجي العلي «الإنسان» من الخطورة بحيث إن ناجي العلي «الفيلم» استدعى حملة شنّتها إحدى الصحف المصرية الرسمية على المخرج عاطف الطيب، لأنّه صنع فيلماً عن الرجل الذي «شتم مصر». هكذا لُخّص رسام الكاريكاتور الفلسطيني الأشهر لأنّه هاجم السادات وكامب ديفيد. لكنّ الطيّب والسيناريست بشير الديك استغلا فرصة تحالف وليد الحسيني صاحب مجلّة «فن» وشركة «إن بي» التي يملكها نور الشريف لصنع فيلم عن الحياة الغنية لمبدع حنظلة.

بدأ تصوير الفيلم عام 1991 وأبهر العديد من المثقفين المصريين ولم يعجب «أهل القضية». لكنه لم يركن إلى الفرضية السهلة: الموساد قتل ناجي، بل ترك المشاهد متردداً بين الصهاينة وأصحاب الكروش الوطنية الملأى بدماء الشهداء.

إنتاج ضخم كلّف مليونين ونصف مليون دولار، واستخدام لمجاميع الكومبارس، مع العناية بالتفاصيل، مثلاً: الجيش الإسرائيلي يطرد الفلسطينيين إلى شاطئ صيدا، وبين الجموع امرأتان تتجادلان لأنّ إحداهما ترفع ملاءة منقوشة، والأخرى مصرّة على أنّ البياض يجب أن يكون نقياً. خلاف له ضرورته بوجود جيش يتسلّى بالقتل. هكذا قتلوا مسناً (محمود مبسوط) لأنه يلعن الدبابات واللغة العربية القبيحة التي تنبعث من مكبّرات الصوت على ألسنة عبرية.

يتحرك ناجي بنشاط، ويخرج إلى الشارع اللندني لا ينتبه لشاب يقترب منه، ترتفع اليد بالمسدس، فيسقط وتنساب أحداث السيناريو (فلاش باك): ناجي طفلاً، النكبة. مخيم عين الحلوة، تجذب رسوماته الأنظار، يسافر. يرى في الخليج عالماً مغايراً، حفلات ونفط وتجار أوطان، النكسة، رجال الأنظمة لا يحتملون كاريكاتوراً صادقاً. في الكويت كان يعمل لكنّهم طردوه «بالذوق». يعود الفيلم إلى لبنان الحرب الأهلية، والعمل في «السفير» ثم الاجتياح الإسرائيلي. يخرج ناجي في إحدى الليالي المشتعلة، يلتقي جندياً مصرياً (محمود الجندي في دور مميز) سكراناً رآه النقاد إشارة للدور المصري المغيّب، يتسائل الجندي: «هي الجيوش العربية هتيجي إمتى؟» يجيب ناجي: «الجيوش العربية مش فاضية»، يرد الجندي: «هي بتحارب في حتة تانية؟». يستعين الطيّب بكتابات ناجي عن نفسه، يقرأها نور الشريف بدور الراوي، يحكي كيف ولد حنظلة: حلم كان ناجي يرى نفسه فيه طفلاً يتأمل الخروج الفلسطيني يديه خلف ظهره... يستيقظ ليجسّد على الورق أيقونته الأشهر.

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

لكم فلسطينكم ولي فلسطيني

خليل صويلح

«من قديمه الجديد». لعل هذه العبارة تناسب ناجي العلي دون سواه، فغيابه لم يلغ راهنية رسومه الجارحة وربما صارت الحاجة إليها أكثر إلحاحاً بعدما تمزّق البيت الفلسطيني إلى درجة لا تحتمل. لكن ماذا لو أن ناجي العلي شهد ما يحدث اليوم من نكبات؟ ستكون المواجهة شرسة وسيدير «حنظلة» ظهره إلى أقصى زاوية اللوحة كي يتوارى عن المشهد الذي ازداد خيانة، فابتعدت فلسطين أكثر فأكثر.

ساخر ومتهكم وعنيد ولاذع يستمد مفرداته من رجل الشارع العادي، وصاحب بصيرة في «شم» رائحة ما يُخطط ضد قضيته في الكواليس. الرجل الطفران الذي يحتل صدر اللوحة بكل خشونته وعنفه واستسلامه وغضبه، يجد الوقت أحياناً للتهكم على ما يحاك ضده من دسائس. لنقل إنّه «متشائل» يقبع في المخيم أو يقف عند حدود الأسلاك الشائكة أو إلى جانب بيت هدمته غارة إسرائيلية للتو. في أحد رسومه، يكتب ناجي تعليقاً على لسان الرجل الطفران «بشرفي لأحلق شواربي إذا هالأنظمة حررت شبر من القدس». وفي الرسمة المجاورة، نرى الرجل وقد طالت لحيته إلى أن بلغت ركبتيه. وفي كاريكاتور آخر، يسأل احدهم رجلاً يقف بجواره: «هل تعرف رشيدة مهران؟» وحين يجيبه بالنفي، يرد عليه: «إذا ما بتعرف رشيدة مهران، كيف لكن صرت عضو باتحاد الكتاب الفلسطينيين يا أخو الشليته». وقتها، كانت الكاتبة المصرية المجهولة مقرّبة من ياسر عرفات بعد إنجازها كتاباً بعنوان «عرفات نبيي وإلهي». إثر هذا الكاريكاتور، تلقى ناجي تهديدات من شخصيات فلسطينية، لكن صاحب حنظلة استمر في خندقه، معتبراً فلسطين وحدها «الأيقونة المقدسة».

إخلاصه للأبيض والأسود في رسومه هو إعلان صريح لرفض اللون الرمادي، لهذا ربما أطاحته رصاصة في أحد شوارع لندن. كأن قدر الفلسطيني الجيد هو الموت اغتيالاً. هكذا سنستعيد بالضرورة العبوة الناسفة التي مزّقت جسد غسان كنفاني في بيروت، وربما صور آخرين كانت فلسطين وحدها «الخط الأحمر» لهم. عشرون عاماً من الغياب، جرت خلالها دماء غزيرة و«أوسلو» في الثلاجة و«ماكيت» لفلسطين وهمية ليست هي التي كان يحلم بها ناجي منذ غادر قريته الشجرة عام 48. ولو كان حياً، لقال بكل وضوح: «لكم فلسطينكم ولي فلسطيني». في رسمة أخرى، تتحول الدبابة إلى محراث يدوي في إشارة إلى سخريته من الحل السلمي الذي سمّاه ذات مرة «الحل السياحي»! هكذا لم يكف ناجي عن فضح كل ما يلوّث صورة فلسطين، مبشراً بوطن مؤجل في رهان صريح على المقاومة، ألم يتنبأ بثورة الحجارة؟ كان مخلصاً لخط مستقيم يختزل المسافة إلى الوطن. ولكل هذه الأسباب تلقى تلك الرصاصة الآثمة من مسدس كاتم للصوت. ولأسباب كثيرة أخرى، لم ينج ناجي من الاغتيال.

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

«حنظلة» أيقونة ضد العولمة... والجدار

القدس المحتلة ـ نجوان درويش

«عمتجتمع لوحدك بالسّر مع الإسرائيليين.. والله لأفضحك يا أناني!» يقولون لواحد منهم بينما يدير «الأناني» مؤخرته لبقية الزمرة من دون أن يخفي غبطته. مؤخرات ولغاليغ وكروش ضخمة هي الملامح الفيزيائية للفساد المبكر في مشروع التحرر الوطني كما صوّرها «حنظلة».

ليس هناك فنان أثّر في الوعي الفلسطيني مثل ناجي العلي (1936ـــــ1987) ولا فنان يضاهيه في تأثيره على الأجيال الجديدة، سواء في الوطن المحتل أو في الشتات... بالإضافة إلى تأثيره العربي وأحياناً الأجنبي. وليس غريباً اليوم أن نشاهد شباباً أوروبيين وأميركيين من مناهضي العولمة يضعون «حنظلة» في أعناقهم أو نراه مطبوعاً على «تي شيرتات» يرتدونها. حنظلة صار من رموز مقاومة العولمة ومقاومة «الجدار» معاً في لحظة تحولت فلسطين إلى نقطة مواجهة كونية. (كم يعرفون ناجي وكم نعرفه نحن؟ تلك حكاية أخرى).

في سيرته، يمثّل ناجي أجمل ما في الشخصية الفلسطينية: تكوين إنساني شفاف لا يتردّد في المواجهة. وبعيداً عن التشوهات الوطنية التي طالت الحياة الفلسطينية كلّها، يبقى ناجي أمثولة لـ«سحر الكرامة». حدّته ـــــ التي نسمع عنها أو نراها في رسومه ـــــ هي بالتأكيد فائض رقته وشقيقة ذلك الشعور بالوحشة لمن يدافع عن قضية شعب كأنه صاحبها الوحيد! الذين اعتبروه مُقلقاً وبذيئاً كانوا قد أداروا ظهورهم للمُثل التي كان وفياً لها ولم ير حياته إلا من خلالها. بلا شك، هو صاحب أجمل «لا» في وجه من سرقوا فلسطين ومَن ابتذلوا قضيتها.

الرسمان الأخيران: كان يتأبطهما الفنان لحظة إطلاق النار عليه... (ننشرهما باذن خاص من أسرة ناجي العلي)

منذ وقت مبكر حين كان نقد «رموز المقاومة الفلسطينية» بدعةً، تصدّى ناجي لفساد الطبقة السياسية الفلسطينية، في وقت لم يكن مقبولاً فيه من «المثقفين» سوى المبايعة والهتاف. وكرسام كاريكاتور واسع التأثير، كان يصعب تجاهله أو إقصاؤه فجاء اغتياله في النهاية! كان واعياً لآليات التدجين التي يمكن أن تسلب الفنان والمثقف فاعليته وتحوله إلى دجاجة مكاتب أو طاووس لا عمل له سوى عرض ريشه. لغته الكاشفة كانت تتصادم دائماً مع «القيادات» وموظفيها «المثقفين»، في وقت كانت فيه سحب الدخان الأميركية تتقدم نحو سماء المنطقة على هيئة «حلول سلمية». السنوات العشرون التي مضت منذ اغتياله أكّدت صوابية رؤيته الفاجعة، وكاريكاتوراته ما زالت راهنة، بل بعضها تضاعفت راهنيته.

لم يكن ناجي ـــــ بروايات عارفيه ـــــ محباً للتنظير و«لغة المثقفين». في بعض الأحيان، اعتُبر وضوحه «ضعفاً ثقافياً» في أوساط تبجّل الفذلكة والتعالي على الواقع. وتشاء المفارقة أن يشكّل ناجي نموذج المثقف المضاد لظاهرة «المثقف الموظف» الامتثالي والذرائعي وتحديداً «مثقف منظمة التحرير» وتحولاته لاحقاً في حقبة هي بحق حقبة بؤس الثقافة. «المتعيشون» كما يسمّون بالدارجة كان لهم فضل لا ينكر في صناعة الحضيض الفلسطيني الراهن؛ ولولا ظاهرتهم ودورهم لما وصلت رصاصة قاتل مأجور إلى رأس حنظلة ولكان الآن بيننا: شاب مقلق في الواحدة والسبعين يرسم كاريكاتوراً لاذعاً عن «اللجنة التحضيرية للقدس عاصمة للثقافة العربية عام 2009». من الممتع فعلاً تخيّل ما كان سيرسمه إذا كان معنا على مدار العشرين سنة الأخيرة؟

في هذه المناسبة، قد يتردد سؤال: ماذا بقي من ناجي العلي بعد عشرين سنة من غيابه؟ بينما نسأل نحن: ماذا نقص منه؟ ليس هذا كلاماً مجازياً أو عاطفياًً، فالسؤال الصحيح هو: ماذا نقص منه وليس ماذا بقي؟ إن ناجي حاضر رغم غياب أي تكريس رسمي لأعماله، فحتى الآن تعيش أعماله بقوة دفع ذاتية ولم تُجمع أعماله الكاملة ولم يتم توفيرها للقارئ والمشاهد العربي. المؤسسة الرسمية ـــــ الفلسطينية خصوصاً ـــــ تتشدق في المناسبات عن «تكريمه» وضرورة «تخليد ذكراه» ثم تغط في

لامبالاتها.

ثم ماذا يُقصد بـ«غيابه»؟ هل قتلُ واحد مثل ناجي يعني غيابه؟ الأرجح أن الغياب هو نصيب طواويس الفن والثقافة الباحثين عن أمجاد شخصية فوق حطام شعوبهم. غائبون وبصحة جيدة. أما ناجي فاشتعلت فكرته ولم يعد ممكناً إطفاؤها. هو الطفل الذي ضلل قاتليه وضحك عليهم. اليوم، نرى فكرته في كل مكان في فلسطين. ملامحه في الإنتاج الفني ليست في الكاريكاتور، لكن في التشكيل بشكل عام، وفي النقد السياسي وحتى في فنون ظهرت بعد «غيابه» كموسيقى الراب. الأجيال الجديدة أكثر وفاء لفكرته.

و«حنظلة» يفاجئك دائماً بحضوره. تراه على صدور صبايا وشباب في القدس والناصرة وغزة وعكا ورام الله وفي المخيمات طبعاً وأمكنة أخرى على امتداد المخيلة. هو جزء من ملامح الأجيال الجديدة. تراه ينظر إلى «الجدار» وأنت تنتظر قربه على حاجز «قلنديا». أيقونة مستقبلية تحمل فكرة العودة وتمثل الجوهر الإنساني الذي ينزع دوماً إلى الحرية. في فلسطين، تقترن صورة ناجي بالجنوب اللبناني وبصورة بيروت وبمخيلة المنفى. فمنذ خروجه من قريته وهو بعمر حنظلة عام 1948، لم يعد ناجي لفلسطين. ربما لهذا لم يكبر واختبأ عند العاشرة كما فعل قاسم في قصيدة طه محمد علي «الضحك على ذقون القتلة».

اقتراب الذكرى العشرين لاغتياله واقتراب الذكرى العشرين للانتفاضة الأولى (في كانون الأول/ ديسمبر القادم) التي طالما انتظرها ناجي وبشّر بها؛ تفرض مراجعات ذاتية وتجعل اغتياله موضوعاً راهناً كأنّه حدث منذ ساعات. ولعل السؤال الذي يطرحه الآن «جيل الانتفاضة» هو مَن قتل ناجي العلي؟ التساؤل هنا ليس فضولاً صحافياً ولا للاستعمال السياسي... إنه مطالبة عميقة بفتح هذا الملف المطوي والتحقيق بشكل جاد لتحديد المتورطين الحقيقيين ومحاكمتهم.

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

محيي الدين اللبّاد يتذكّر: أرّخ هزائمنا بالسخرية والعبث

القاهرة ــــ محمد شعير

«نحيل الجسم، صخري الوجه، صعب الابتسام» هكذا يرى محيي الدين اللباد، ناجي العلي الذي ربطته به علاقة صداقة قوية. على رغم مرور عشرين عاماً على رحيل ناجي، تبقى رسومه حسب رسام الكاريكاتور المصري المعروف، يوميات عربية نادرة تغطّي 20 سنة من عمرنا (1967-1987)، وتؤسس اللغة الغرافيكية غير اللفظية، مثبتة «أنّنا العرب لسنا دائماً كما قيل عنّا نطرب فقط للفظ والسجع».

يرى اللباد أنّ المحطات الفاصلة في حياة ناجي ارتبطت بالأزمات السياسية في الوطن العربي. نكسة 67 كانت «لحظة مفصلية» في تطوره.. «بعد النكسة، كان أغلب الكاريكاتور العربي منهمكاً في تحصيل الحاصل: هجاء العدو الغاصب.. لكنّ ناجي اختار هجاء الذات ووخز ضميرها بمسؤوليتها عما حدث، ويبدو أننا كنا نحتاج إلى ذلك، فكان ناجي رسّامنا الذي اتفقنا عليه».

ستة تنقلات أو «نزوحات» كما يسمّيها اللباد ميّزت تجربة العلي: من قريته الشجرة إلى مخيم عين الحلوة، ومنها إلى بيروت رساماً للكاريكاتور في مجلة «الحرية» ثم الكويت، فبيروت وأخيراً لندن. يقول اللباد: «على صفحات «الطليعة»، تبلور صوت ناجي الخاص، أصبحت رسومه بلا تعليق مكتوب، تتربص المفارقة الفكاهية بقارئها في حنايا المفردات الغرافيكية للرسم. وفي تلك المرحلة أيضاً، أخذ ناجي ينوّع بتطويل مقصود في عدد من الرسوم على فكرة واحدة يلح بها على القارئ حتى يرهقه. فكم من رسوم نوّع فيها وألح بتشبيهات فكاهية للرقم «5» (تاريخ يوم الهزيمة): فشبّهه مرة بالعقال العربي، ومرة أخرى بطوق «الهولاهوب» الذي نهزّ وسطنا بالرقص داخله. وكنّا نضحك لهذا الذكاء الغرافيكي الملح».

خلال الحرب الأهلية في لبنان نضج وعينا: «اكتشفنا أن الشعارات الجاهزة والانحيازات المطلقة وصلت إلى نهاية، وأن الأمور أصبحت معقّدة». ويضيف اللباد: «هكذا، كان الكاريكاتور الذي احتجنا إليه من ناجي مختلفاً أيضاً». كيف تغيّر ناجي فنياً في تلك المرحلة؟

يجيب اللباد: «السخط، الحزن، الاعتراف بالمأزق، القهقهة العبثية، والشتائم... كل هذا في لمحة ذكية، وهذه المرة، جعل وعينا النسبي أكثر مناعة ضد الصدمات اللامعقولة، لم يكن هناك محل للمازوخية. كنا نريد أن نضحك لنفرّج بعض الكرب وسط الفجيعة والألم والموت. وكان مع زياد الرحباني في برنامجه الإذاعي وفي أغانيه التي امتزج فيها ألم الاكتشاف مع الفكاهة العبثية الواعية نجمان كاريكاتوريان التف حولهما الناس ليروا ويسمعوا فكاهة المأساة التي أبدعها النجمان في أشكال لا يمكن تقليدها».

هل البساطة وعدم التثاقف وحدهما سر حضور ناجي حتى الآن؟ يجيب اللباد: «ما زال قراء ناجي يذكرون الكثير من المفردات المرسومة التي اخترعها واصطلح ــــ هو وقرّاؤه ــــ على دلالاتها: المرأة الحزينة الباكية (فلسطينية أو لبنانية) وقد علّقت مفتاح الدار في رقبتها. المسيح بإكليل الشوك والمسامير وقد تكرر ظهوره في رسوم ناجي. الصليب، رمز العذاب وقد حدثني ناجي كثيراً عن إعجابه بالمسيح وباستشهاده مصلوباً لإنقاذ البشر. الكائنات السمينة التي تزحف بلا ساقين وتنبت لها أحياناً ذيول (رمزاً للأنظمة العاجزة). أما حنظلة، فلا بد من أنه الطفل ناجي الذي خرج فيه مع أهله من قرية الشجرة إلى مخيم عين الحلوة». ويرى اللباد أنّه «كان يصوغ تعليقه بلا حذلقة سياسية، وبالطريقة ذاتها التي يعلّق

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

زيارة إلى «عين الحلوة»

بيسان طي

بحثاً عن «الشجراوي» في أزقة المخيّم

المخيّم الذي نشأ فيه ناجي العلي غيره اليوم. جدران عين الحلوة التي اتسعت لرسوماته الأولى، اسودّت وصارت كالزنازين. كيف تبحث عن خطاه في مخيم يتحوّل اسمه، أحياناً، مرادفاً للرعب أو الخوف؟ كما أن التغييرات الكبيرة ـــــ البشعة والعشوائية ـــــ زادت المخيم فقراً وبؤساً، وضاعت الجدران التي رسم ناجي عليها حكاياته وذكرياته.

لم يبق شيء على حاله هناك، بيت ناجي الأول من الطوب تهدّم وارتفع مكانه منزل آخر، وشجرة الزنزلخت التي جمعته بأصدقائه لم تعد هناك، ومدرسته وجدران رسوماته ودكان جدّه... كلّها أشياء اختفت. لكن ناجي لا يزال يسكن وجدان الأهالي، يحمل بعض الشبان قلادات فيها رسم حنظلة، وتفخر نسوة مسنّات بأنّهن عرفنَه صغيراً.

في عين الحلوة، «ارتسمت» خطوات ناجي الأولى بعد النكبة، وهناك التقى أناساً كان لهم تأثير كبير في حياته. ابن قرية الشجرة المولود ـــــ كما كنفاني ـــــ عام 1936، عاش النكبة وعذابات التشرد سيراً على الأقدام من فلسطين إلى جنوب لبنان، وكانت عائلته أولى العائلات التي سكنت مخيم عين الحلوة.

البيت الأول في المخيم كان خيمة، ثم صار بيتاً من الطوب في «حي عرب الغوير» (لا في حي أبناء قريته الشجرة)، وبينه وبين بيت صديق الطفولة المناضل صلاح صلاح أمتار قليلة يزرعها ذوو صلاح بالبندورة والبصل والخس، وكان ناجي يقفز من شباك غرفته، يقطف البصل الأخضر ويلفّه بالخبز المرقوق الساخن، يأخذه من أم صلاح ليصنع منهما «أكلته» المفضلة.

وكانت بين المنزلين شجرة زنزلخت، تحت أغصانها اجتمع الصديقان، يومياً، مع أصدقاء آخرين مقرّبين. كانت اللقاءات تحصل خلال «الفرصة» أو استراحة الغداء من دروس مدرسة اتحاد الكنائس المسيحية. هناك، كان الأصدقاء يروون قصصهم عن النكبة والتشرد، والمعاناة من عناصر في الأمن اللبناني، والخيم التي تقع على رؤوس أصحابها، ويحكون عن «جِزمهم» التي تعاند وحول الشتاء. ويذكر صلاح أن «ناجي كان صاحب نكتة منذ الصغر، لم يكن يصرخ كثيراً مهما احتدّ النقاش، كان يعرف كيف يطلق النكتة المُرّة والتعليق اللاذع»، بل إنّ صلاح يستغرب كثيراً ما يُقال عن أن «ناجي العلي كان متجهّماً»، يضيف «كلما نظرت إلى صوره أراه مبتسماً».

أبو ماهر اليماني، المناضل الفلسطيني الشهير، كان له تأثير كبير في حياة تلامذته من المخيم. لقّنهم قواعد العلوم واللغة، وعلّمهم قبل ذلك كله أصول الانتماء إلى الأمة العربية. هكذا نفهم رسم ناجي الشهير، حين يقترب أحدهم ليسأل الآخر:«أنت مسيحي أو مسلم، روم ولاّ سنّي، شيعي ولاّ ماروني...»، فيجيبه بكل بساطة: «أنا عربي يا جحش».

القدرة على السخرية من المرارة ربما كانت الدليل الأول على موهبة ناجي العلي وتوجهه، وهي صفة تشارك فيها مع غسان كنفاني. يقول صلاح: «أشعر أن أسباب الصداقة بينهما كثيرة، فهما يتشاركان صفتين: إنهما صاحبا نقد ساخر لاذع، وكانا أيضاً رجلين مرحين يحبان إطلاق النكات، كما أنهما مميّزان وصاحبا موهبتين متكاملتين».

ويذكر صلاح أن ناجي «الشجراوي» ـــــ كما كان يُعرف بين أصدقائه، نسبة إلى قريته الشجرة ـــــ كان طيّباً جداً، وتميّز بكرمه ونقائه، ولا يذكر أصدقاؤه متى تنبّه ناجي إلى موهبة الرسم. «كان يرسم على الأوراق والجدران وكل ما يقع بين يديه، لكننا لم ندرك أهمية موهبته، كنا صغاراً ونعدّ الرسم خربشة». صلاح صلاح رفيق الطفولة والنضال، ما زال يذكر جيداً الرسم الكاريكاتوري الأول لناجي: يومها رَسمَ خيمة هي قصص الشلة والسنوات الأولى في عين الحلوة.

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

«حنظلة 2007» متجولاً في فلسطين

عامر شوملي

بعنوان «حنظلة 2007: معرض كاريكاتورات ضد الاحتلال لذكرى ناجي العلي» أرسلنا دعوات بالبريد الإلكتروني وبدأنا البحث عن الرسامين المتضامنين مع فلسطين. خلال شهر، تجمع لدينا رسامون من أنحاء العالم إلا أوستراليا وفلسطين. خالد العلي أرسل بعضاً من رسومات والده عن فترة حرب المخيمات في لبنان كأنها رسمت اليوم... خلال شهرين، أرسل لنا كارلوس لطوف (البرازيل)، محمد أبو عفيفة وأسامة حجاج وناصر الجعفري (الأردن)، عبد طميش وعصام عودة وماهر فارس وخليل أبو عرفة ومحمد النمنم (فلسطين)، بن هاين (بلجيكا) ديفيد بلنجر وكيتي ميراندا ومايك فلوغن أيك (أميركا) جون كينيدي (أيرلندا) خالد الهاشمي (البحرين)، خليل بن ديب (الجزائر) وستيف بل (بريطانيا) ...و قبل العرض بأسبوع، أرسل جونثان شابيرو من جنوب أفريقيا معتذراً لتأخره في الرد... لم أخبره أن بعض من هم في رام الله لم يرسلوا حتى رداً بسيطاً بأنهم غير معنيين بالمشاركة، وأن عرضاً عن فلسطين، ولو في الصين، سيكون أجمل على سيرتهم الذاتية. كلما ابتعد الفلسطينيون عن فلسطين ازدادوا فلسطينيةً.

جمّعنا الكاريكاتورات الـ 150 على لوحات ضخمة وطبعناها لتكون غطاءً للباص، 18 رساماً قاموا بتغطية الباص تماماً. أوقفنا الباص في المنارة، مركز مدينة رام الله. بعد تسع ساعات من الإحباط، لم يتجاوز الحضور الأربعين. ثم ذهبنا بالباص إلى بيت لحم، وتوقفنا في ساحة المهد. وكما في رام الله كنّا نحن الجمهور! لم لا يتوقف المارة؟ هل الفن حقيقة قطّ منزلي يجب أن يبقى بعيداً عن الشارع، مدللاً في قاعات العرض؟ أم أنهم رأوا حنظلة فأشاحوا خجلاً؟ أما في مخيم اليرموك بدمشق، فوقفنا كمن يشاهد المعرض، ومثّلنا أننا نقرأ الكاريكاتورات. بعد وقت قليل، توقف أحدهم بدافع الفضول تلاه آخر. وحتى مغيب الشمس كان هنالك حشد حقيقي أمام الباص.

 

jordan shoes for sale outlet sneakers

معرض الصور