وجوه حسن إدلبي ..غواية المرايا الكاريكاتير حين يستوطن العين

قيم هذا الموضوع: 
لا يوجد تقييمات
المصدر: 
جريدة الثورة - سورية
الكاتب: 
ماهر عزام

تقول إحدى أساطير الهنود الحمر بأن يوم القيامة هو لقاء وجوه أو صور عنها، وهذا ما سيسر كل الكتاب والفنانين والسياسيين الذين رسمهم حسن إدلبي، لأنهم سيكونون في الصدارة لما تتمتع به تلك الصور من ألفة ودفء قد لا يملكونه في الواقع، وأعتقد أن كل هندي أحمر أو من يؤمن بهذا الكلام سيسارع إلى فناننا ليحصل منه على بورتريه تقيه شر الآخرة وعذابات نارها.

كل هذا لا غبار عليه لكن أكثر ما يزعج في الأمر هو أن تكون صورة مادلين أولبرايت بين تلك الوجوه رغم أنه رسمها كراقصة شرقية، ربما إيمانا منه بحاجة ضحاياها إليها في نهاية الدرب . في صور الوجوه الموقعة باسمه لا يحتاج المشاهد أن يكون ذا بصيرة نافذة ليعرف بأن الفنان، وبإرادته، لم يسع إلى إجراء تحويرات عنيفة على ملامح الوجه،أو مبالغات مجانية، إنما كل ما قام به إدلبي هو إدخال الوجه كمادة خام إلى مختبر حسن الفنان وإخراجه بعد المعالجة واللعب وكأنه صورة مغسولة بريشة مبدع، وواحدة من سمات هذا المبدع أنه (أزعر) إلى الحد الذي لا يترك فيه فرصة لصاحب الصورة أن يكرهه، لا بل وربما زاد من حب صاحب الصورة لصورته.‏

لهذا ربما لم أستغرب عندما قدم لي أحد الفنانين كرت الفيزيت الخاص به واضعا الصورة مكان الاسم، فهي صورة رغم كونها تنتمي إلى ميدان البورتريهات الكاريكاتيرية، أي تقوم على المبالغة في تشويه الملامح، إلا أنها مبالغة غير منفرة، وحارة لكن حرارتها لا تتعدى خط الدفء والحميمية، يقول هو عما يميزأسلوبه: بأنه يملك طرافة دون تجريح. أما غادة السمان فقد رأت بأنه يداعب الجرح بدبوس الابتسامة.‏

مع أن هناك من أهل الفن التشكيلي من لم ترقهم هذه اللعبة فأخذوا يطلقون الإشاعات التي تنال من موهبة حسن إدلبي، ربما كانت هذه الإشاعات السبب وراء تركه للمدينة التي أحب، دمشق، وغادرها إلى بيروت. عندما شاهدت رسومات حسن إدلبي قبل سبعة عشر عاما للمرة الأولى في معرض استضافته صالة إيبلا للفنون بدمشق (1989) وقدم فيه مجموعة من لوحات لوجوه أساتذته في الجامعة إلى جانب عمال وموظفي كلية الفنون بما فيهم الحراس والمستخدمين،‏

تردد حينها الكثير من الأقاويل عن هذا الأسلوب من فن البورتريه، إلى درجة زعم أحد النقاد حينها بأن حسن إدلبي  الطالب يستخدم أنواعا خاصة من العدسات لتصوير الوجوه ومن ثم يطبعها وبعدها يقوم بنقل تفاصيل ما قدمته الصورة الفوتوغرافية، مجردا التجربة من أي موهبة في اللعب بملامح الإنسان في محاولة لسبر أعماقه، وقد اعتبر هذا الرأي أن البراعة في النسخ وليس في إبداع ما هو غير موجود في الظاهر. ربما ما أزعج أصحاب هذا الرأي هو أن يشاهدوا صورهم إلى جانب مستخدم أو حارس، فكيف يجروء طالب على أن يجعل منهم موضوعا كعمال مقهى الكلية.‏

لم يكن من العسير معرفة أسباب إطلاق هذا الكلام حينها، وذلك لأن مشروع تخرج الطالب قد حصل على أعلى علامة معتليا بثقة عرش الخريج الأول على الدفعة. رغم ذلك ربما تركت ردود الأفعال هذه غصة في نفس حسن مفضلا البحث عن ماء خارج هذا البحر فكانت بيروت، تلك المدينة التي عجنته وخبزته أكثر مما يتطلب الأمر حتى يجد نفسه في موقع يقول فيه الفنان المصري الكبير جورج بهجوري : (حسن إدلبي هو تلميذي الذي أصبح أستاذي). وأعتقد أن الحادثة لم تمر مرور العابرات، إنما تركت أثرها في أعماق الفنان، لهذا ربما نجد تفسيرا لإصرار إدلبي على الظهور بشكل مباشر وحي على شاشة التلفزيون وهو مستلا ريشته ويرسم على مرأى من المشاهدين وذلك في برنامج (وبعد سهار) على محطة المستقبل،‏

وكذلك في برنامج (ألو) على محطة"ART" بعد أن أصبح أحد أبرز رسامي الوجوه الكاريكاتيرية في الصحافة العربية، لا ليثبت لمطلقي الشائعات خطأهم بل ليهزأ منهم ومن ادعاءاتهم لكن هذه المرة على طريقته الكاريكاتيرية. أنزل البورتريه من برجه العاجي إلى أروقة المجلات وزوايا الصحف عندما اختط حسن إدلبي هذا الأسلوب لنفسه في التعاطي مع الفن من جهة ومع المجتمع من جهة أخرى، هل ارتاد المستحيل أم عبر بحر الظلمات؟ كل ما فعله هو أنه أنزل فن البورتريه من برجه العاجي وجعله يتجول بين أروقة المجلات وزوايا الصحف، ولم ينس أن يدعه يتبختر أمامنا وكأنه يعتلي حمارا فكها، لا يكف عن إطلاق النكات المضحكة وتوزيع الابتسامات لكل مشته.‏

هذه هي لعبة الفنان حسن إدلبي في صياغة رسوماته بحيث تستثمر طاقة الكاريكاتير في مداعبة الوجوه بحرية بقدر ما تستثمر أسرار اللون والحركة والخطوط في اللوحة الفنية، لهذا لا بد لنا من الوقوف إلى جانب من يقولون بأن إمكانات حسن كتشكيلي لا تأخذ حقها من القراءة في دوامة  اليومي والمتكرر والعابر المفروض صحفيا. أعتقد أن التشكيلي إدلبي قد انتبه إلى حصة الصحفي إدلبي فقرر إخراج رسوماته من حيز الاستهلاك الورقي إلى فضاء المعرض الفني فبدأ بتقديم أعماله كلوحات تشكيلية في معارض مخصصة لهذا الغرض بدءا من دمشق إلى بيروت فباريس والقاهرة،دبي إيران..‏

كتبت غادة السمان عن هذه الإشكالية في تجربة إدلبي: حسن واحد من الرسامين العرب النادرين الذين يمكن اعتبارهم رواداً في هذا الحقل غير الشائع عندنا، فالكاريكاتير/البورتريه طفل الحرية والضحك، وكلاهما مرذول في عالمنا وينظر إليه كما ينظر إلى الغانية بحذر علني واشتهاء سري، أو إلى خبز الفقير: مأكول مذموم.. المرأة لا تحب إلا مرآتها الأكيد أن أعمال إدلبي لا تملك الألغاز والأحاجي، إنها رسومات بسيطة في المعنى، وهذا عامل إضافي على الصورة حتى يصل الإحساس بها كوجه يعكس هوية حامله لا صورته لدى الفنان، أو ما تخيله عنه الفنان، فالكتاب لا يظهرون وهم حالمون بشخصياتهم الروائية أو (متأملون بعمق في فلسفة المكان الروائي أو التركيبة المتمايزة للنظائر الضدية في شعريتهم الحداثية)‏

وهذا ينطبق على كل الوجوه التي رسمها إدلبي من سياسيين وفنانين وأكاديميين...الخ إنهم بشر طيبون، تقربنا صورهم منهم وكأننا نراهم وهم يقفون أمام واجهات بيع الثياب أو وهم يدفعون ثمن الصحف ليشاهدوا صورهم الباسمة فيها. أكثر ما يربك حسن إدلبي في الرسم هو وجه سياسي أو امرأة، يقول عن وجوه الساسة العرب بأن ملامحهم قاسية،ويضيف بأن وجه السياسي في العادة لا يعبر ولا يضحك. بخلاف الفنان الذي يملك كاريكاتير خاص به. أما لماذا يربكه رسم وجه المرأة وذلك - كما يقول- لأنها لا تريد أن ترى صورتها إلا وفق مكياجها الخاص الذي تعرف وحدها كيف تخفي عيوب وجهها وتظهر محاسنه، ويضيف الفنان إدلبي بأنه يجاهد كي لا يظهر العيوب فيعمل كأفضل ماكيير في العالم لكن المرأة لا تحب إلا مرآتها.‏

الرسم عن بعد! يعاب على تجربة فناننا أنه أحيانا يرسم وجوها لشخصيات لم يلتق بها من قبل في الوقت الذي يسعى فيه إبراز ما خلف الوجه في الصورة، وهذا ما يجعل من لوحاته تنوء تحت تصورات ربما واهمة عن هذا الشخص أو ذاك، خاصة وأنه يعنى بالتفاصيل الدقيقة التي تتطلب معرفة مباشرة بالشخص أحيانا، عن هذا يقول: كنت أتمنى أن أقترب منهم جميعا، فهذا الاقتراب يجعل خطوطي تختلف تماما، وهذا حدث معي فعليا، فمثلا الفنان نور الشريف كنت قد رسمته من قبل، ثم تلاقيت معه، اللوحة التي رسمتها بعد لقائه صورته فيها اختلفت تماما سواء من حيث التعبير أو الرؤية.‏

لكن هناك ملامح ثابتة موجودة في بعض الأشخاص تظهر في أي صورة لهم، كالحزن مثلا. فأنا لا أتصور الكاتب نجيب محفوظ ضاحكا، كلنا لم نر عيني هذا العملاق، لكني أؤكد أن بهما نظرات مليئة بالحزن. بالنسبة لإدلبي بالنهاية الكاريكاتير هو القبض على لحظة هاربة لإبراز ملمح جوهري لكنه غائب في الملامح الأخرى‏,‏ وهذا هو محور الفن. أخيراً إن أظرف ما في تجربة رسم البورتريه عند حسن إدلبي كما بدا لي، هو في كونها تكاد تمثل مرآة تشبه حكاية أحلام الهنود الحمر بحيث لا يمكن لأي عامل في حقل الإعلام أدبا، فنا، ...الخ أن يقاوم غواية الوقوف أمامها في قرارة نفسه، وهذا طموح كل رسام وجوه.‏

 

Le Migliori Vendite 100% Reale Air Jordans 31 Chicago Scarpe Da Pallacanestro Scarpe Air Jordan 31 Squisita EQ4O89

معرض الصور